إبراهيم سبتي
قطعنا المسافة الى سوريا عبر الطريق الدولي السريع وكانت نقطة الاستراحة بعد العناء الطويل هي منطقة تسمى الـ (160) وفيها نأخذ قسطاً من الراحة ونأكل شيئاً ويعيد السائق ترتيب سيارته ويقوم بفحص الإطارات وجهاز التكييف ويلقي نظرة على زيت المحرك، ساعة لا اكثر ثم ننطلق عبر الأرض البرية الشاسعة على الطريق الطويل الواصل الى سوريا والاردن.. فجأة وبعد ان قطعنا اكثر من ساعة بعد الكيلو 160، تعطلت السيارة وتوقف المحرك.
كانت الساعة تشير الى السابعة مساءً. حاول السائق بحنكته وممارسته من أنْ يعالج ويصلح العطل لكنه عجز لأنَّ سير المحرك والذي يسمى بالمصطلح الدارج (القايش)، قد انقطع والذي كان موجوداً في عدته الاحتياطية لم يناسب المحرك ويبدو انه قصير نسبياً. كان العطل في تلك الصحراء بمثابة تأخير إجباري ملزم، وعلينا انتظار سيارة قادمة.
لسوء الحظ جميع السيارات التي مرت بنا وتوقفت لسؤالنا لا تشبه سيارتنا وبالتالي لا فائدة منها.
مرت ثلاث ساعات ونحن ننتظر، مرة نقف في الطريق مترجلين ومرة نجلس داخل السيارة. ولم تنفع اتصالات سائقنا بزملائه وذهبت محاولاته سدى. في هذا الظرف امر طبيعي ان تكثر تكهنات الركاب وراحت تخيلاتهم تتلاطم بنا يمينا وشمالا واكثرها كانت مخيفة ومروعة. كان السائق اكثرنا اطمئنانا.
يهدئ بكلامه، فورة اعصابنا المتوترة ويمنحنا بكلامه رادعا عن الخوف والقلق.
سمعنا قصصاً كثيرة عن الارهابيين الذين اعتدوا على المسافرين في هذه المنطقة المقطوعة وهذا وحده كفيل بان تكون اعصابنا غارقة في بحر الفزع والرهبة.
دفع ذلك بعض الركاب لأن يفتعلوا الحكايات وكلها تتحدث عن الذبح والتمثيل بالجثث وغيرها من الظنون التي لا يمكن لبشر ان يستكين لها ولم يُروع منها.. كنا خمسة مسافرين وسادسنا السائق جميعنا من جنوب القلب وقد نفد ماء الشرب الذي جلبناه من الاستراحة وقت الغروب وعلينا ايقاف اية سيارة مارّة لطلب المعونة في ماء الشرب لا سيما ونحن في بداية شهر تموز خلال عطلتنا الصيفية الحارة.
لاحت مصابيح سيارة قادمة، فازدادت مخاوف الركاب وقلقهم، البعض يقول انهم ارهابيون متسللون في الصحراء وواحد قال انها سيارة دورية الشرطة.. دنت السيارة واستمرت في طريقها ولم تصدر منا اشارة او ايماءة.
فجأة توقفت على بعد خمسين مترا ورجعت الى الوراء.
كانت سيارة صالون صغيرة يبدو ان موديلها من حقبة التسعينيات. ترجل منها شاب في العشرينيات وألقى تحيته ومن ثم سألنا حاجتنا، تكلم معه السائق بأن سير المحرك قد انقطع والغيار الموجود غير مناسب. طلب من السائق السير القديم وقال: من يحب ان يأتي معي كانت دعوته قد اخافتنا وسارعنا بالاعتذار. كان الشاب ذكيا وضحك وقال لنا خذوا راحتكم سأذهب واعود بعد ساعة او اكثر انتظروني ولا تقلقوا.
كنا بين مصدق ومذهول ومكذب للرجل الذي تصرف بشجاعة وشهامة. ما علينا سوى الانتظار لأننا كغرقى يتعلقون بقشة لإنقاذهم. مرت ساعة ولم يحضر.. ساعة ونصف ولم يحضر.. مرت اكثر من ساعتين وكانت الساعة تشير تقريبا الى الواحدة صباحا واذا بنا نسمع صوت منبه السيارة من بعيد في فضاء المكان الصافي ويقترب وتقترب معه الاماني والآمال المعلقة.
فتح صندوق سيارته وسلّم السائق سيرا جديدا للمحرك بنفس القياس واخرج عبوات بلاستيكية مليئة بالطعام وحزمتين من قناني الماء.
ضحكنا من عمق الفرح وقال بانه ذهب الى الرطبة التي يسكن فيها ومرّ على بيت قريبه الذي يمتلك محلا لبيع المواد الاحتياطية للسيارات في المنطقة الصناعية وكان نائما. واكمل قائلا: اخبرته بقصتكم فاسرعنا الى محله في منتصف الليل واخبرنا مفرزة الشرطة القريبة من المحال التجارية فوافقوا على دخولنا وها انا بين ايدكم الان.
اسرع سائقنا لتبديل السير وكان الشاب يساعده الى ان تم التبديل وجَهُزت السيارة للتحرك وهنا التفت سائقنا نحو الشاب مستفسرا عن تكلفة الطعام والسير، ضحك الشاب بأدب وقال بان الطعام على حسابي لأنه ضيافتكم التي تستحقون اكثر وسآخذ سعر السير لأنه يخص قريبي.. اي نبل هذا؟ مع انه ليس غريبا على سلوك اي مواطن في تلك المناطق بأن يسارع لتقديم العون والخير لكل محتاج للمساعدة لأنه بالتالي مواطن عراقي لا يختلف عنه بشيء ناهيك عن مبلغ الكرم وغاية الشهامة التي جبلوا
عليها.
فليسمع من يسمع بان الشاب العراقي الذي ابدى مساعدته وكرمه ونبله، هو احد المؤسسين الفاعلين في ارساء المصالحة بين العراقيين وضرب مثلا كبيرا في التصرف اللائق المعبر عن روح الاخوة والتسامح والشجاعة.