ابراهيم سبتي
تتردد في الحياة اليومية للناس، كلمات والفاظا ومفردات صارت ايقونة الكلام ووسيلة من وسائل التندر احيانا، لانها قد تكون ساخرة او يقولها احدهم بتهكم او بهزء مقصود او غير مقصود. من العبارات التي تقال للتهكم مثلا، كلام الليل يمحوه النهار. وعندما يطلب احدهم بان يعزز اقواله بالأفعال يقول له بان الافعال ابلغ من الاقوال. حدث ان التقيت بأحد الزملاء من مدينة الموصل لثلاث مرات متباعدة. كنت ادير العلاقات والاعلام في احدى الوزارات. واثبت انه لا يريد سوى الاخوة والعلاقة النظيفة الخالية من المآرب الاخرى واثبت هو هذا السلوك بأفضل ما يكون. كان هذا الزميل والصديق يدير احدى المؤسسات التابعة لوزارتنا في الخارج وكان مثالا للأخلاق والنزاهة والابتكار والطيبة والمواطنة المشهودة له. في اخر زيارة له لي حدثني حول موضوع مهم وخطير واقول خطير لأنه لا يصدق احدا ان مدير مؤسسة في الخارج يرغب بالاستقالة والعودة للعراق تاركا كل شيء خلفه، وانه فكر كثيرا بهذا الموضوع ورشحني لإدارة تلك المؤسسة ويعرف جيدا اني من جنوب القلب. لحد هذا الكلام الامر يبدو طبيعيا. لكن غير الاعتيادي ان ينظر البعض بان هذ التصرف لا يمكن ان يحدث وخاصة بعد ما حصل في البلد من دخول للأفكار المتطرفة والافكار التخريبية التي ارادت تمزيق البساط العراقي الملون المنسوج بقلوب العراقيين دون استثناء. لم أُصدم بكلامه ولم استغرب لأني بصراحة كوّنت فكرة رائعة عن الزميل الذي كان كلامه صادقا ويخرج من قلب عراقي محب. قال لي بان الامر يحتاج الى موافقة الوزير على اعفائي وترشيحك بدلا عني. مع اني كنت بمنصب اداري مهم في وزارة كبيرة ومهمة. كتب الزميل والصديق الموصلي طلب اعفائه وكتبت طلب ترشيحي محله. كنت مترددا في الذهاب معه للوزير لأني على يقين بانه لن يقبل ترشيحي محله. لا لسبب سلبي او غيره مما يدور في عقول المصابين بالمرض الذي غذته بعض الاطراف الكارهة، انّما لأني اعرف جيدا اهمية عملي وما قدمته مع زملائي الاخرين. ذلك هو اللغز الذي حيّر بعض القلة من الحاسدين. صعدنا الى الوزير الذي استقبلنا بابتسامته المعهودة وقال اجلسا قبل ان تتكلما واستغرق الرجل في ضيافتنا ودار بعض الكلام المفيد وبدا انه ارتاح لنا كثيرا. قدّم الزميل طلبه وشرح له وضعه الصعب في البعد عن عائلته وانه وصل لمرحلة يجب العودة الى العراق وكان مصرّا على ذلك، تعاطف الوزير معه ووافق على اعفائه من ادارة المؤسسة التابعة لنا في الخارج وراح الرجل يكيل المديح اللائق والصادق لأعمال الزميل في الخارج وانه مثال العراقي الذي يحب بلده. اما انا فقدمت طلبي للحلول محله. صفن الوزير بوجهي وقال بروح اخوية ودودة، كيف ذلك، اتعرف اني لا استطيع ان افراط فيك ؟ انت قلبت حال دائرتك الى حال لم تصل اليه من قبل. وراح يكيل المديح وكلمات الاعتزاز وخاصة ـ الكلام للوزير ـ انك استطعت ان تنقل صورة واضحة للرأي العام الذي كانت دوائر اعلامية مختلفة تضخ له اخبارا غير صحيحة عنّا. كان اعتذارا ينم عن مصلحة العمل وفضّل ان ابقى معه وقريبا منه لمواصلة عملنا بروح عراقية اخوية.. وكتب على طلبي ما قاله لي بالحبر الاحمر فكانت شهادة اعتز فيها
دائما.
خرجنا من غرفة الوزير راضين، كل منا اقتنع بما اراده. حتى اليوم، الزميل الموصلي يتواصل معي بروح عراقية اخوية وكأني احدث احد اخوتي كلما حدثني. وكلما اسرد هذه الواقعة على احد ما، ارى الاستغراب اول الامر ولكن بعد ذلك اجده يقول هذا معدن الرجال الحقيقي الذي لا استغراب فيه، هو هذا العراقي بشجاعته وغيرته وشهامته لا يتغير في كل الاماكن والازمنة. نعم ان صديقي هذا لم يمحو كلامه النهار ولا الليل ابدا وقد قرن اقواله بأفعاله عندما وعدني وصدق وعده فأية روح تسامح يحملها واية روح عراقية يفخر بها. فعانقت الموصل، جنوب القلب عناقا ابديا وظللت افتخر به صديقا واخا مهما طال الزمان.