تدل الدراسات الانثروبولوجية على أن الإنسان تطور في نظمه الاجتماعية من مرحلة بسيطة الى مرحلة معقدة من التنظيم الحضاري، منطلقاً في ثلاثة مسارات، أولها المسار الاقتصادي والتقني وثانيها المسار الاجتماعي (العائلة والقرابة) وثالثها المسار السياسي (السلطة)، وعند اجتيازه المرحلة الأولى في حياته ظهرت الحاجة الى أن يوجد الإنسان ضمن نسق اجتماعي يتبادل فيه مع أخيه الإنسان الخبرات وينظم شؤونه العامة على وفق نواميس ابتكرها العقل البشري ، وهكذا كانت النظم القبلية من أهم النظم الاجتماعية والسياسية التي نظم الإنسان بها حياته الجماعية، وقد تميزت تلك النظم بالاستقلالية بصفتها كياناً اجتماعياً واقتصادياً مستقلاً ، تقيم علاقاتها الداخلية على أساس وجود هرم تنظيمي سياسي يرأسه رئيس القبيلة ومجلسها، وقد كانت وظائف تلك النظم مهمة وضرورية سواء في التنظيم الداخلي وتحديد المكانات الاجتماعية على وفق معايير متوارثة خلال الزمن ،أم على الصعيد الخارجي في تكوين التوازنات مع القبائل الأخرى في عالم لم يعرف الدولة
والمدينة بعد. أما بعد تكوين القرى ثم المدن تغيرت وظائف القبائل نسبياً، لاسيما في نظام الملكية إي انتقال الملكية من ملكية القبيلة الكلية الى ملكية الأسر التي تمارس العمل الزراعي وبهذا انتقل الإنسان من النمط البدائي وكذلك من النمط البدوي القائم على الترحال الى نمط العشائر الزراعية المستقرة، ما أفضى الى ظهور فائض في الإنتاج وبهذا تحولت بعض القرى على ضفاف الأنهار الى مدن تمارس مهناً متعددة وبهذا استدعى الوضع الجديد نسقاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً جديداً متجهاً نحو الفردية. ثم ظهرت الامبراطوريات التاريخية والدول وهكذا. ان الحال في المرحلة الحديثة تغير تماماً، لاسيما في المجتمعات المتقدمة عندما اختفت النظم التقليدية وظهرت نظم جديدة معقدة يحكمها القانون بعد التحول الصناعي الهائل فيها، أما المجتمعات التقليدية أو ما تعرف بالمجتمعات النامية بقيت اغلب نظمها قبلية وعشائرية بفعل غياب فرص التحول الصناعي، كما حصل في الغرب ، مؤدية وظائفها السياسية والاجتماعية في بيئتها الطبيعية، إلا ان التغيرات الثقافية التي طرأت على المجتمعات التقليدية ، قلبت الوضع رأساً على عقب عندما أصبحت هذه المجتمعات، لاسيما في مدنها تعيش صراعاً بين قيمها وعاداتها التقليدية ومظاهر الحداثة الداخلة إليها، ما اربك المجتمع ،وأضاع كثيراً من وظائف السنن العشائرية واختلط الأمر على سكان المدن على
وجه الخصوص.
أما العراق وبعد تكون الدولة العراقية عام 1921 واستقلال العراق عام 1932 فقد وضع النظم السياسية لهذا التداخل، فسن نظام دعاوى العشائر وهو مختص بالعشائر والقانون المدني الخاص بالمجتمع الحضري والمجتمع بشكل عام، وبعد عام 1958 الغي نظام دعاوى العشائر، وبدا التأكيد على الهوية الوطنية حتى انحصر تأثير العشائر في الحياة السياسية ابان حقبة السبعينيات ليعود من جديد ابان حقبة التسعينيات وما تلاها بعد أن تم توظيفها لصالح السلطة بعد ان أصابها الضعف حتى ظهر ما يعرف بشيوخ التسعينيات، ومن هنا بدأت المشكلة تتفاقم ويمتد تأثيرها حتى المرحلة الحالية، فأنت اليوم حين تذهب الى إي مجلس عشائري سواء في جنوب العراق أو شماله وغربه وشرقه ، تجد لفظة شيخ تطلق على اغلب الداخلين الى المجلس حتى انك تحتار من هو الشيخ الذي يقود هذه العشيرة أو تلك، وان طغيان هذا الوضع بدأ يظهر بشكل جلي في المدن . ولهذا يحق لنا طرح تساؤلات عدة هل يمكن ان يتوافق النظام العشائري مع طبيعة التكوين الثقافي للمدينة؟ وهل هناك عشيرة حقاً في المدن؟ أم ان ظهور النظام العشائري يرجع الى أسباب اقتصادية وحضارية مرجعها فشل المدينة العراقية في دمج المهاجرين الريفيين إليها في فترات مختلفة في نسيجها الاجتماعي والحضاري؟ وهل عدم قدرة المجتمعات النامية ومنها مجتمع العراق في العصر الحديث على الدخول في عصر الصناعة، عطل حدوث تغير بنيوي مفصلي في نظامها الاجتماعي؟ وهل تذبذب النظم السياسية في العراق، وصراع أبنائها من اجل السلطة سبب في تقوية النزعة التعصبية العشائرية في المدن العراقية؟ وهل استطاع النظام الديمقراطي الحالي تحجيم هذا الدور أم ان هذا النظام عزز من النظام العشائري لتحقيق مكاسب انتخابية
وولائية؟. ان الدور العشائري في تنظيم الحياة الاجتماعية لاسيما في بيئته وحتى في مظاهره في المدن، قد أسيء استخدامه حتى تجد اليوم في احد أفخاذ العشيرة رهطاً من الشيوخ ،بل تجد في احدى اسر أفخاذ العشيرة عدداً من الشيوخ، ناهيك عن ما في العشيرة أو القبيلة من اعداد الشيوخ حتى أصبح الأمر مثيراً للسخرية، والسؤال الذي ينبغي أن يطرح أين دور زعماء العشائر التاريخيين كي يضعوا حداً لهذه المهزلة، وإنقاذ هذا النظام العشائري من التفكك والضياع ، ان قيم العشيرة وسننها في خطر حقيقي عندما تجد هذه السنن توظف في المدن لابتزاز الناس مستغلين عدم معرفة ساكني المدن بهذه السنن ووظائفها حتى طغت ظاهرة تأجير الشيوخ وهم بالأصل ليسوا بالمشيخة من صلة، واستخدامهم فيما أسموه بالفصل العشائري، حتى أصبح الأمر اقرب الى التمثيلية الهزلية من أصل الوظيفة في فض النزاعات ، ثم أين دور القانون من قضايا الناس حتى يبتعدوا عن الاستعانة بما يعرف بالفصل العشائري وملابساته المشار إليها، ان الساحة العشائرية، سواء في المدن أم الريف تشهد ولادة مرحلة جديدة من ازدياد اعداد الشيوخ حتى أصبح الأمر يستحق وصفه بشيوخ بلا عشائر. وهي ظاهرة تستحق الاهتمام من كل فئات المجتمع بما فيهم الشيوخ التاريخيون(الأصليون) حفاظاً على دور العشائر في حفظ السلم الأهلي، وتعزيز القيم المجتمعية الايجابية في عموم المجتمع.