مديات القول والتوصيل الشعري في {حفنـــة دولارات ملطخـــة بالدم}

ثقافة 2019/08/06
...

نصير الشيخ
 ((فمن يمسح غبار الوقت عن جبين السؤال..؟)). جملة شعرية  ضاربة في المعنى والنسيج  الصوري،من خلالها يضعنا الشاعر رضا المحمداوي في منتصف النظر الى الأشياء عبر نصه " خطوات على جسر الريح"، ذلك ان الوقت هو السائل (الهيولى) الذي يحيطنا ويمر علينا بانخطافاتِ سككه العابرة التي لاتعرف التوقف، وبالتالي يكمنُ الوقت لنا ذئبا يراقب حيزنا الوجودي، عبوراً الى توهج الخواتيم في المعنى الانطلوجي للحياة إلا وهو السؤال؟
فمن ثيمة مشتركة لجمع لانعرف ملامحهم يؤثث لنا المحمدواي عبر نصه الطويل  "خطوات على جسر الريح" الذي يتصدر نصوص المجموعة الشعرية (( حفنة دولارات ملطخة بالدم)) الصادرة عن دار امل الجديدة في طبعتها الأولى
2019.
ثيمة تتصادى فيها أصوات هي نداء إنساني يحمل ثقلاً كبيراً، وما فعل " العبور" إلا محاولة للوصول الى مكان آمن، بعد ان عانت الحروب وخرابها في الجانب الذي انطلقت منه الأصوات، عبوراً يتشكل للبحث عن هوية جديدة..
   (( وعلينا أن نزيل الان عن براءتنا/ دماء البكارة الأنيقة / ونطرز وسائدنا /  بجثة النرجس القتيل /ونبحث عن سبب للغنيمة)).ص6
أذاً، ثمة حرائق اندلعت وخراب طال القيم والمعنى والأبنية، وتشويه لملامح ووجوه الحياة الآمنة، مصدرها" عدو" مسلح بعدة "محو الهوية" وعديد الجند والسلاح ومشاريع التغيير لطوبوغرافيا الأرض والتاريخ. يقول د.صلاح فضل في كتابه أساليب الشعرية المعاصرة ص: (( عندما نشرع في قراءة قصيدة ما لانستطيع ان نتوقع طولها، ويتعين علينا أن ننتظرالى نهايتها كي نتمثل نظامها المقطعي، ومدى ما يتراءى من خلاله من تراكبات تتعلق بالأزمنة والأمكنة والموقف والإشارات ودرجة تشتتها 
او تماسكها)).
 خطوات على جسر الريح، نص تمثل ما أورده د.صلاح فضل، منطلقاً على المستوى التعبيري من صوت هو(الجوقة) الباحثة عن خلاصها، والمخلفة ورائها حرائق الحروب وسرفات عدو يصوب دوما الى ظهورها..!! عبر جسر خلاصها (دون لهاثٍ ولكي لا ينقطعوا عن حبا الكلام).. لنكتشف بعد وقوع الفجيعة ان الحلم العراقي قد أغتيل بفعل قوى الآخر(المارينز) الراكب الموجة الأميركية الخبيثة.
 دأب رضا المحد اوي في اشتغاله الشعري على توظيف "فكرة" تكون نقطة انطلاق لمشهدية شعرية تغتني بما حولها من "سرديات" تؤثث المشهد في خط تصاعدي يأخذنا لبناء درامي على مستوى معمارية النص، وإيقاعية اخاذة على مستوى الجرس الموسيقي في اندماج وتنامي لوحدة النص. وانطلاقاً من عنونة المجموعة ((حفنة دولارات ملطخة بالدم)) حيث المعنى الإشهاري المتمم الوضوح فيما يخص"شعرنة النص" الذي يفقد بريقه الخاص المنتمي لسرانية الشعر وتجوهره الجمالي، ومن ثم الحفر لتجريدية تدفعنا كمتلقين للإمساك لعنونة تأخذنا حيث الدهشة، عبر الدفقة الشعرية التي يتحصل عليها العنوان، وهو العتبة وهو جامع النص،وهومدخل لشعرية المتن،وو....لنكون امام جملة إشهارية بانت بوضوحها، وسربت الينا مبكراً شفراتها، بالذهاب الى قصدية معلنة..نَضْت عنها شرنقة الشعرفي تجلياته،واكتسب ثوب "الخطاب" الشعري، وبما يشي لنا بالكشف عبر الدخول لنصوص المجموعة لمضامين أبعد، وصور ستكون تحت مجهر الشاعر، وبالتالي شَكَلَ العنوان مدخلاً لنا،حاملين اليه انتباهتنا كسراج يضئ متن النصوص المكتنزة بمعانيها، تمحورة في مجملها حول موقف الشاعر من (إحتلال) بلده، على يد القوات الأميركية منذ نيسان عام الفين وثلاثة.. وتداعيات هذا (الإحتلال)،وإخلاله بالمنظومة القيمية كقاعدة استناد وصولاً الى تمزيق النسيج المجتمعي والهوية الوطنية، وبالتالي فتح مسارات للعبث بمقدرات البلاد التي تمتد حضارتها لستة الآف عام.
       (( كل عام وأنت بخيبةٍ/ أيها الوطن المتفائل/ بما يهرق من دم وينثرمن جثث في الطرقات/ نصحو..فتنام/ وتنام..فنصحو)) ص37.
نص من اجل حفنة من الدولارات ملطخة بالدم والذي اخذ تسمية المجموعة،شكل مصفوفة كلامية متراصة لصور مأساوية علقت على جدران الواقع العراقي، ليحضر صوت الشاعر هنا بصيغة (نحن)..تعبيرا عن سخط مقيم في الشخصية المقهورة، حيث الليل الأمريكي المخيم الثقيل الناشر
 رائحة الموت.
نص أعتمد التصعيد الدرامي في وحدته الدلالية، راسماً لنا مقطعية فجائعية على شكل سيناريو، تتنوع ثيماته وتلتقي عند بؤرة واحدة إلا وهي " إدانة الغزو الأميركي، وتبعاته .
    (( ترى/ هل تأخر الفجر عن موعده/أم الضحايا استعجلوا قطف الثمار)) ص38.
لتتصاعد حدة الإدانة عبر نسيج شعري لايعدم توظيف الصورة الشعرية وسياقها النحوي والبلاغي، ومن ثم شحنها بمعانٍ متعددة تستوعب هول الحدث العراقي، وإبراز دلالات عدة نمسك من خلالها شعرية النص الذي لايفقد بوصلته اتجاه الوضوح التام ومن ثم ارتماءهِ في "التقريرية"...ذلك أن التركيز على "الموضوعة" ينحرف بالشعرية من منطقتها الجمالية الى رصيف البوح الانفعالي، ونرى هنا أن الشاعر أمسك العصا من وسطها، ليقدم لنا توقيعات شعرية راسمة ((سكيشات)) منقعة بدم وانتظار وصرخة مكتومة..      ((صباح محاصر/ بالأسئلة والدماء/ يخبئ شمسه خجلاً/
       ريثما يعبر الرتل الأمريكي/جسر الشهداء)). ص40
يستكمل نص ((مياه.. الى تلك الانهار)) متوالية الحس الشعري لدى الشاعر، عبر عين باصرة تتقرى جسد البلاد التي أحبها، وتجذرت فيها طفولته وصباه وروحه الشاعرة، فكيف بها تؤول الى خراب " لما سيجئ من طغاة"..عين الشاعر تتقمص في تعبيرها جزئيات المشهد العراقي، حيث النهر الباكي بمرارة والمندغم مع روح الشاعر، حيث لا نجد إنفصالاً بين الذات الشاعرة والنهر، كمقطع طبيعي ينتمي لجغرافيا الأرض، يشق مجراه على جسدها،حاملا ملحها وطينها وآهاتِ من عشقوا مياهه وتوضؤا فيها حد القداسة.
      (( نهر يشيل إنحناءات الجسور/ عن ظهر المدينة/
ونهر يقطع رأس الفتنة/ التي دبرها الخليفة السكير إلى نصفين/
ولا أقول الكرخ/ ولا أقول الرصافة/ ونهر ثالث يمسح العطش المرّ/
عن شفاه الحسين..)) ص46.
صعوداً في نصوص المجموعة التي تألفت من تسعة عشر نصاً، اعتمدت ومثلما أسلفنا بناءً درامياً يلاحق جزئيات الواقع ويبصم أثره الشعري عبر فعل الكتابة الذي يأخذنا من فعله "الإدهاشي" الى ضميره " التدويني" كشهادة على ماجرى ويجري، لما للبناء الدرامي وتصعيده من أثرفي نفسية المتلقي وسحبه الى وحدة إندماجية مع  موضوعته الراهنة، هذا الكد الشعري تطلب نَفساً مركباً على بنية لغوية تأخذ من واقعها وأحداثها ومشاهدها الكثير،عبر تصوير بالغ الدقة في التعبير عن الموضوع المرئي، منزاحاً شيئاً فشيئاً عن "شعرية" تخلت عنها لغتها الجمالية لصالح موضوعته لكشف واقع يتخفى خلف المرايا المتكدسة من أرضية بلاد تستنشق أحلامها وخان البارود على حد سواء.ولأن لغة الشاعر رضا المحمداوي تاتي متلاحقة للحاق بمشهديةٍ يقف عند زاويتها، ظلت الإيقاعية ونبرها العالي واضحة الحضورفي نصه الشعري المتدفق صوراً، حد إنوجاد "التقفية" الداخلية، وجرسها اللفظي الذي يرفع من حدة الإيقاع وتمظهراته،فكلما أنزاحت الرؤى الشعرية،نهض وعي يعيد مسائلة الحاضر ليكتبه شعراً، وهي المساحة الأكثر إبلاغا في إيصال صوته ومن ثم ترك أثرٍ على جدران الكتابة.وهي محاولة تتجدد للإمساكبجوهر"الفكرة" وضبط إيقاعها الفني والتاريخي على حد سواء.