مشاهد مكة!

الصفحة الاخيرة 2019/08/08
...


 جواد علي كسّار
 
يوم المشاعر ونزول الرحمة في مكة، هكذا أصفُ جولة قمنا بها إلى المشاعر متحرّرة من مناسك الحج والتزاماته. تحرّكنا بسيارة النقل العام صوب جبل الهجرة؛ جبل الثور. أذكر إنني رأيته من قبل لكن من دون تركيز. جدّدتُ عهدي بهذا الجبل العظيم الذي احتضن الرسول وصاحبه، في رحلة الذهاب إلى المدينة. جبل مهمل، غير نظيف، إلا من بضعة أباعر للتصوير، لا دليل، ولا معلومة ولا ملحوظة!
كنت قد توقعتُ أثناء خروجي من الفندق أن ينهمر غيث السماء، وقد ذكرتُ لأحد الرفاق أن مطر مكة إذا هطل، فهو خشن وغزير. هبّت عاصفة في منطقة جبل الهجرة، تصاعد معها الغبار، تلملمتُ بالكوفية، وتأملت الجبل المظلوم الذي يحيطه الإهمال من كلّ جانب، في حين يمكن أن يتحوّل بأدوات إيضاحية بسيطة، إلى واحدٍ من أهمّ معالم السيرة النبوية.
في الطريق من جبل الهجرة صوب المشاعر، بدأت رحمة الله، وراح الغيث ينهمر. مررنا بمسجد الخيف العظيم في منى، ثمّ مسجد النمرة في عرفات، ووقفنا عند جبل الرحمة. أمضيتُ نصف ساعة من الصلاة على إحدى صخور جبل الرحمة؛ استغفار، ضراعات، صلوات، ورحمة منهمرة، ورياح عذبة تبثّ نسائمها علينا. غسلٌ للأبدان والأرواح مما علق بها من الذنوب والخطايا والآثام والغفلة، فمن جبل الرحمة، ومن على صخوره تشفّ الأرواح وتخفّ النفوس، وتهفو القلوب إلى بارئها.
أشعر أنني أفدت من كلّ لحظة من لحظات جبل الرحمة، وكانت فرصة عظيمة ربما ساوت فرصة وقوفنا في عرفات خلال موسم الحج.
من جبل الرحمة ذهبنا إلى منى، وقبل ذلك مررنا بالمشعر الحرام والمزدلفة. المنظر الآن يختلف عن موسم الحج، فضاء مفتوح، الخيام مرفوعة، والمطر ينتشر من حولنا، ويسبغ المزيد من السمو والرفعة الروحية، ويبعث على الطُمأنينة ويرسل السكينة والهدوء.
مررنا على منى، والجمرات، حدّثونا عن مشروع العمارات العملاقة الذي لو تمّ، يرتفع الموسم إلى (10) ملايين حاج، والأمور بيد الله.
 من المشاعر المقدّسة، تهادت سيارتنا، كأنها خاشعة، وهي تطوف في مدينة الله، مدينة المدن، حرم الله؛ تهادت السيارة، الخاشعة المطمئنة، باتجاه جبل النور وغار حراء. هنا تعجز الكلمات عن وصف المشهد، واستحضار لحظاته القدسية الرفيعة، حيث كان صلى الله عليه وآله يتحنّث على دين جدّهِ إبراهيم في هذا الغار، حتى أزفت لحظة الانطلاق الكونية الوجودية الكبرى، مع نداء الله: اقرأ.
ونحن في السيارة رحنا نتأمل كلٌّ بما ينسجم مع معرفته واستعداده وحظّه من هذه الرحلة ومشاهدها. تحدّثتُ إلى الزائرين عن جبل النور والمشهد العظيم، وقد ساعدنا في التفاعل فيلم الرسالة الذي كان يُبث من فيديو السيارة.
طعم رائع وأجواء رفيعة، وحركة من جبل النور، صوب مقبرة المُعلّى والحجون، حيث محطّ أم المؤمنين خديجة، ومثوى المكرمين أبي طالب وعبد الله وعبد المطلب وعبد مناف، والأرومة الكريمة من بني هاشم.
توقفت الحافلة، حيث أدينا زيارة أهل القبور، ودعونا للمسلمين والزائرين، ثمّ تحركنا صوب الفندق، مروراً بالكعبة المشرّفة؛ رحلة ما أروعها وما أجمل لحظاتها، وأحلى ذكرياتها؛ حجٌ مبرور وذنبٌ مغفور وسعيٌ مشكور لحجاج أمة المصطفى، وكلّ عام وأنتم بخير.