ما العمل؟

الصفحة الاخيرة 2019/08/17
...

 جواد علي كسّار
ليس الأرشيف تراكماً معلوماتياً محضاً، بل هو أحد أبرز وسائل المراجعة المعرفية ومن ضروراتها، وهو ليس سجلاً للذاكرة المجرّدة، بل هو عقلٌ يختزن الكثير من الرؤى والأفكار، وفي سياق عودتي لدفاتري أعجبتني مراجعة قديمة نسبياً قدّمها الباحث اللبناني عصام نعمان، فهناك في هذه الورقة لغة واقعية مهمومة بقضايا الواقع، يشغلها التغيير أكثر من التنظير، وتسعى إلى استجماع الطاقات واستنهاضها أكثر مما تمارس الإلغاء والإقصاء. يصدر الجانب الأول من الورقة من وصف حزين مثقل بالهموم والهواجس، ويخلص إلى السؤال الموجع: أين كنا وأين صرنا؟ في ظلّ واقع مروّع يتّسم بالانحدار بل الانحطاط.
ترصد ورقة الباحث بعد ذلك ثلاثة شروط أساسية للخروج من الانحطاط على مستوى الوعي النظري، هي:
الأول: الإدراك العميق في أن الانحطاط ثاوٍ فينا ضارب في أعماقنا، وليس جرثوماً وافداً من الخارج، وما ابتلاءاتنا مع الخارج منذ غزو هولاكو حتى الغزو الأوروبي والتوسّع الصهيوني، إلا أثر لذلك الانحطاط الداخلي أو القابلية على الاستعمار بحسب مالك بن نبي.
الثاني: ينبغي أن ندرك أنه ما من أحدٍ أساءَ إلينا أكثر مما أسأنا إلى أنفسنا؛ فنحن أعداء أنفسنا بامتياز. أسباب ذلك متعدّدة أهمها كما يسجّل الباحث بحقّ، مفهوم السلطة وطريقة ممارستها. فالسلطة تنزع إلى الكبت وتعطيل طاقات المجتمع ومؤسّساته وحتى افتراسه، ومن ثَمّ أصبح الحاكم عموماً هو السلطان العاري الذي ليس له أي تقبّل من قبل الرعية، والمجتمع مقموع ليس عليه إلا أداء فروض الطاعة والاستسلام لرغبات السلطان.
الثالث: المفروض أن تنطلق النهضة من فعل ذاتي إرادي اختياري، وليس من مشروع مفتعل وإرادة خارجية تفرض التغيير قسراً. بتعبير الباحث «النهضة في بلادنا اخفقت لأنها كانت محاولة تغيير من الخارج، ولم تكن فعل تغيّر من الداخل. النهضة ليست صناعة أوروبية أو أميركية أو يابانية تفرض نفسها علينا وتدعونا إلى الامتثال لمتطلّباتها، بل يجب أن تكون صناعة وطنية تنطلق من التغيّر الذاتي والاكتساب الطوعي للمعارف والمهارات والقدرات».
بعد هذا الوصف والشروط الثلاثة التي أطلقها الباحث لوعي الانحطاط، يتحوّل إلى سؤال جوهري: كيف إذاً يتحوّل الكلام عملاً؟
بغضّ النظر عن الأهداف التي تطرحها الورقة والآليات والبرامج الخمسة عشر التي يقترحها الكاتب، فإنّ الشيء المهمّ الذي يشدّ الانتباه ويميّز البحث هو مكوثه عند ظاهرة خطيرة تسود العالم العربي والإسلامي، وربما أيضاً أية أمة ينتابها الضعف وتُبتلى بالانحطاط؛ هي ظاهرة الاكتفاء بالكلام عن الفعل، والاستغناء بالفكر عن التغيير، وبالمناهج عن نظريات فهم الواقع وإدراكه. يكتب الباحث: «إننا نعتبر الكلام فعلاً»، ثُمّ يضيف بأننا نعتبر العمل تمريناً بيانياً فـ«خطباؤنا وسياسيونا مطربون؛ سياسيون يستميلون الجمهور بالكلمة والنبرة وإيقاع الصوت والحركة. اجتماعاتنا ومؤتمراتنا السياسية تنتهي دائماً إلى بيانات وقرارات تتناسل كالنمل ولا فعل، وتتراكم ليبلغ وزنها الأطنان ولا تأثير في دنيا الواقع».
ثمّ يسجّل بحقّ، إننا بحاجة إلى تعظيم العمل بإعطائه قيمة، حتى أنه يختم ورقته بتأكيد قيمة العمل حين يكتب: «ثمّة حاجة ماسّة لإيقاظ الشعور بالمسؤولية والوعي بالأخطار التي تواجه الأمة أقطاراً وشعوباً، مسؤولين ومواطنين، وبتعبئة الجهود ومباشرة الجهاد قولاً وفعلاً، ثمّة حاجة إلى التزام روحية جديدة جوهرها العمل والكفاح بلا هوادة. حيّ على الكفاح، حيّ على الكفاح، حيّ على خير العمل». لقد دعا الكاتب إلى هذا الإطار الاستنهاضي القائم على جذب جميع الجهود واستقطاب كلّ الإمكانات وعدم التضحية بشيء من خلال لغة الإقصاء والإلغاء، من خلال عنصر لا اختلاف عليه، ولا يقبل التلوّن ويتمنّع على المحاصصة، هو العمل والعملُ فقط!