مذكرات آخر آباء المونتاج المنسيين

الصفحة الاخيرة 2019/08/20
...

خصَّ المونتير الرائد كاظم العطري، صفحة سينما، بشذرات من مذكراته التي نشرها في كُراس، لخّصَ فيها مسيرته المهنيَّة في المونتاج والإخراج منذ بداية الخمسينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي.
 
سينما
 
عدتُ للعراق بعد مدة قصيرة من قيام ثورة 14 تموز المباركة عام 1958، تفاجأت بالتغييرات الشاملة في دائرتي (وحدة الافلام السينمائية لشركة نفط العراق)، اذ تم تسفير مدير الوحدة المنتج السينمائي جون شيرمان وتعيين اخر، هو جاك ديفدس، ليس هذا وحسب، إنّما صدر أمر ايقاف عملية الانتاج في الوحدة ونقل جميع العاملين فيها من فنانات وفنانين، الى وظائف كتابية في الشركة، عدايَّ ومشغل جهاز عرض الافلام خاجيك ميساك..
وضمت لائحة المنقولين من الوحدة: سيمون مهران، وعبد اللطيف صالح، وفكتور حداد، ومحمد شكري جميل، وماجد كامل، وعاطف الظاهر، وازاد هوفانسيان، ومال الله سلوم الملقب بأحمد سليمان، وكان سبب بقائي في الوحدة، هو الحاجة الى خدماتي كمونتير، اذ أنيطت بي مهمّة حذف المشاهد واللقطات التي يظهر فيها المسؤولون الحكوميون من العهد الملكي للأشخاص غير المرغوب في وجود صورهم في تلك الافلام التي انتجتها الوحدة سابقا، وكان وجود خاجيك معي ضروريا لغرض عرض تلك الافلام قبل اجراء عملية المونتاج عليها وبعدها، اذ كانت معالجتها تتطلب دقة متناهية في اختيار مكان القطع المناسب بسبب تقدم الصوت على الصورة، كي لا يشعر المشاهد بوجود حذف اي لقطة، أو مشهد من الفيلم.
وصارت الافلام التي تتطلب معالجة، تردني بالعشرات من مختلف انحاء العراق، وكنت أبادر فورا على انجاز عمليات الحذف عليها من دون تغيير، حال تسلّمها، وبمرور الزمن اصبح ما يصل منها يقل تدريجيا، حتى توقف كليا، ولم يعد لديَّ ما أفعله سوى قضاء الوقت بالمطالعة، او المشاهدة الافلام الوثائقية الانكليزية الخاصة بالمكتبة السينمائية، وفي احد الأيام اتصل بي مدير تلفزيون بغداد في حينه الراحل يوسف جرجيس حمد، وعرض عليَّ القيام بإنتاج سلسلة من الافلام الإخبارية والتسجيلية لحساب التلفزيون، وافقت لكنّي استمهلته بعض الوقت لحين استئذان مدير الوحدة مستر ديفدس، للحصول على موافقته والسماح لي باستخدام اجهزة المونتاج الخاصة بالوحدة، وافق الرجل على ذلك بطيب خاطر لأنّه كان راضيا عن عملي معه بإخلاص وانجاز المهمات التي يكلفني بها من دون تلكؤ وعلى افضل وجه (وربما كان السبب الاقوى في موافقته السريعة على طلبي هو ما كشفته الايام لي فيما بعد) باشرنا العمل فورا بعد تشكيل وحدة انتاج سينمائية مصغّرة تتألف من المصور ماجد كامل ومهندس الصوت دواد السامرائي والمذيع حافظ القباني ويوسف جرجيس، كمشرف فني ومنّي أنا كمونتير ومخرج افلام وثائقية، وكان العبء الاكبر يقع عليَّ في تنفيذ الافلام، فالمصور باستطاعته انجاز تصوير مواضيع العدد في يوم او يومين، فيما يستغرق زمن الانجاز عندي 15 يوما، على الاقل، فمهمتي لا تقتصر على عملية مونتاج النسخة الموجبة، بل يجب القيام باختيار الموسيقى التصويرية والمؤثرات الصوتية والمشاركة في كتابة التعليق وبعد تسجيلها جميعا وتوليفها مع الصورة يتبع ذلك قيامي بعملية المكساج وأخيرا إنجاز عملية تقطيع النسخة السالبة، علما أنّ جميع الأمور الفنية المذكورة أقوم بإنجازها بمفردي، اذ لم يكن لديَّ مساعد يُعينني في أعمالي المجهدة تلك، ولقاء كل ذلك كان ما تم تخصيصه لي من أجور لا يوازي سوى نسبة ضئيلة من استحقاقاتي لها مقارنة بما كان يتقاضاه المصور مثلا، ومع ذلك لم اعترض عليها، معتبرا ذلك واجبا وطنيا مقدّسا وكنت أشعر ببالغ السعادة وأنا أقدم خدماتي لحكومة تحظى بحب الشعب وتأييد 
زعيمه.
كانت سلسلة الافلام الاخبارية، التي نقوم بإنتاجها تحت مسمّى "آبار العراق" تتضمن مواضيع متعددة تشمل مشاهد من محاكمات رموز العهد الملكي من قبل "محكمة الشعب"، ووضع الحجر الاساس والمباشرة بإنجاز بعض المشاريع العمرانية، او عرض بعض النشاطات الاجتماعية، وكل عدد يستغرق 10 دقائق.
وقد صورنا احتفالات شعبنا والمسرات الكبرى التي تشيد بثورة تموز وزعيهما المحبوب، وكان شارع الرشيد مركز رئيسيا لهذه الفعاليات، وكنا نختار اماكن عالية  لنصوّر اللقطات العامة  للحشود والقريبة للزعيم، فلاقت افلامنا رواجا وقبولا عند الجمهور من خلال اصحاب دور السينمات الذين حرصوا على عرضها، وذلك لعدم امتلاك اغلب العراقيين اجهزة تلفزيون، فضلا عن عدم وصول البث التلفزيوني الى المدن البعيدة، فعمد اصحاب السينمات الى عرض افلامنا مع اي فيلم رخيص (ستوك) ليضمنوا اجتذاب الزبائن الذين يتشوّقون لمتابعة مجريات الاحداث السياسية والاجتماعية في البلد، وبعد أن تمّ إنجاز سبعة عشر عددا من افلام وحدتنا الصغيرة بادر الفنان يوسف العاني باختيار عددين منها "أحدهما إخباري والآخر تسجيلي" وقدمهما الى وزير الارشاد آنذاك فيصل السامر ليراها الزعيم عبد الكريم قاسم، ومن ثمّ تحصل الموافقة على شراء المعدات والاجهزة التي تخص وحدة الافلام السينمائية لمكتب المعلومات الاميركي، الذي تم تجميده عقب نجاح ثورة 
تموز.
وفعلا تمت الموافقة على شراء جميع تلك الاجهزة بمبلغ 50 الف دينار، وكانت الوحدة تشغل بناية متوسطة الحجم والمساحة وتقع في شارع ابو نواس بالقرب من الشيراتون الحالي، وبعد انتقال ملكيتها الى الجانب العراقي صار اسمها "مصلحة السينما والمسرح".
دعوني للانضمام الى المصلحة الجديدة وترددت في تقديم استقالتي للمستر ديفيس، الذي طلب منّي، البقاء ووعدني بتحسين راتبي، لكنّي آثرت العمل في المصلحة رئيسا لشعبة المونتاج، وعرفت فيما بعد أن خروجي مع خاجيك سيكون سببا في اغلاقها حتما وسيرحّل الى بلاده، فخلال شهر قامت الشركة بإلغاء و "وحدة الافلام السينمائية" وأهدت معظم ممتلكاتها ومعداتها الى "مصلحة السينما"، وبذا كنتُ الخاسر الأكبر في تركي للوحدة وانتسابي للدائرة الحكومية، فأنا لم أهنأ منذ مباشرتي بالدوام في المصلحة وكأنّي انتقلت من النعيم الى 
السعير!