تداعيات ما بعد مؤتمر مجاهدي خلق مطلع الألفية
العراق
2019/08/25
+A
-A
جواد علي كسار
بتأريخ 14 آب 2002م ظهر المعارض الإيراني رضا جعفر زاده بمؤتمر صحفي في أميركا، تحوّل هذا المؤتمر بعد ذلك إلى زلزال مدويّ لا تزال تداعياته مستمرّة على إيران حتى اللحظة، فقد كشف جعفر زاده القيادي في منظمة مجاهدي خلق المعارضة، عن أن بلاده إيران قطعت أشواطاً مهمّة في إنشاء موقعين نوويين في نطنز وآراك.
من المؤكد أن وكالة المخابرات الأميركية (C. I. A) كانت على معرفة بجهود إيران الحثيثة في تأسيس هاتين المحطتين، ومعها تل أبيب عبر جهاز الموساد، وربما عواصم غربية أخرى عبر أجهزتها المخابراتية الخاصة، أو من خلال تبادل المعلومات مع الوكالة الأميركية وحتى الموساد؛ كما من الراجح أيضاً أن يكون لروسيا والصين إطلاع على هذين المشروعين النوويين السريين لإيران، لكن أميركا أرادت أن تُعطي صدىً عالمياً واسعاً لعمل إيران هذا، وتدفعها إلى دائرة الاتهام من خلال أدوات داخلية إيرانية، ولتدعم أيضاً دور منظمة مجاهدي خلق المعارض؛ وهذا ما حصل تماماً، فلا تزال الموجات المرتدّة لذلك المؤتمر الصحفي على بساطته، مستمرّة بين صعود وهبوط، وتحوّل للملف النووي داخلياً من وكالة الطاقة إلى الخارجية والمجلس الأعلى للأمن القومي، كما تقلبه خارجياً بين مجلس الأمن الدولي والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبين أميركا وأوروبا وروسيا والصين عبر مجموعة (5 + 1) وخارجها.
المهمّ في هذا التوقيت الذي جاء بعد حوادث ضرب العمق الأميركي في أيلول 2001م، متزامناً مع إسقاط حركة طالبان ومن بعده نظام صدام، أنه مثّل الاحداثيات الزمانية الحقيقية لبداية الملف النووي الإيراني في مواضعاته الأميركية والدولية، في هذه الحلقة نتابع تقلبات الملف وفقاً لمواقف الأطراف المؤثرة في طهران وواشنطن ونيويورك وفيينا وجنيف وموسكو وبكين.
الاحداثية الزمانية
قد يظنّ البعض خطأً أن ثمة مبالغة في الربط بين مؤتمر مجاهدي خلق في الكشف عن النشاط النووي الإيراني، وانفتاح الملف دولياً وخاصة أميركياً على نحوٍ إشكاليّ شائك ومعقّد، لكن بالعودة إلى وزير الخارجية الحالي محمد جواد ظريف (في المنصب منذ: 2013م) نجده يؤكد بشهادات متكرّرة، خطورة ذلك المؤتمر في تنبيه العالم على النشاط النووي الإيراني، وإيقاظ خشية الكثير من العواصم وإثارة قلقها حيال الملف. يقول على سبيل المثال: «من الطريف أنه في اليوم نفسه الذي قدّمتُ فيه أوراق اعتمادي إلى الأمين العام [للأمم المتحدة] أشعل المنافقون [مجاهدو خلق] فتيل معركة النووي في واشنطن؛ فقد قام السيد سيّد المحدثين بمؤتمر صحفي عرض فيه إلى موضوع نطنز وآراك. وعلى الدعايات التي أُثيرت بعد ذلك، تحوّل هذا المؤتمر إلى مرتكز قامت عليه الاتهامات النووية ضدّ جمهورية إيران الإسلامية، ثمّ صار قاعدة للملف النووي الإيراني» (يُنظر: آقاي سفير، ص 195).
يعتقد ظريف أن تحريك أميركا للملف النووي الإيراني بهذه الطريقة الصاخبة، وتدويله بهذا الأسلوب عبر المؤتمر الصحفي لمجاهدي خلق، إنما جاء لإفساد سياسة الاعتدال والتهدئة، التي أسّس لها الرئيس هاشمي رفسنجاني (في المنصب: 1989 - 1997م) ووسّع قاعدتها من بعده الرئيس محمد خاتمي (في المنصب: 1997 - 2005م)، وذلك عبر تزويد: «إسرائيلَ المنافقين [مجاهدي خلق] بالمعلومات، وقيام المنافقين [مجاهدي خلق] بالمؤتمر الصحفي ضدّنا» (المصدر السابق، ص 152) وإلا: «نحن نعلم أن الأميركان يعرفون بموضوع نطنز قبل ذلك [المؤتمر] بمدّة» وقد حصل ذلك كله عبر سياسة عنوانها: «ينبغي احتواء إيران، على النحو الذي لا تستقرّ فيه سياسة الاعتدال والتهدئة» (المصدر السابق نفسه).
لقد تمّ هذا الهدف للأميركان من خلال سياسة الصخب والضجيج والشعارات التي أُبتليت بها إيران، مع الرئيس احمدي نجاد (في المنصب: 2005ـ 2013م) فمع المنهجية الاستعدائية الثوروية التصعيدية الكلامية الجوفاء لهذا الرئيس لم تعد إيران خطراً، أو لم تعد بحاجة إلى من يؤشر على خطورتها وعدائيتها، بعد أن راحت توزّع الذرائع بالمجان على هذا العنوان، بحسب ما يذكره ظريف (آقاي سفير، ص 151ـ 152).
الاصطفاف الثلاثي
يذهب ظريف إلى حصول اصطفاف بين ثلاثة أطراف هي حركة مجاهدي خلق و«إسرائيل» ونظام صدام حسين، عنوانه المصلحة المشتركة بينهم، كان يهدف بعد إسقاط طالبان سنة 2002م، إلى توجيه آلة الحرب الأميركية لإدارة اليمين المحافظ برئاسة بوش الابن (في المنصب: 2001ـ 2009م) إلى ضرب إيران وإسقاط نظامها السياسي، بدلاً من العراق، وأن المؤتمر الصحفي لمجاهدي خلق كان بمنزلة الشرارة لهذا التوجّه الستراتيجي؛ وبحسب قوله: «لقد التقت مصالح المنافقين [مجاهدي خلق] وإسرائيل والعراق عند نقطة واحدة، وذلك عندما عقد المنافقون [مجاهدو خلق] مؤتمرهم الصحفي ذاك، وأفشوا من خلاله النووي الإيراني. لقد كان من مصلحة الثلاثة بأجمعهم أن يتجه الهجوم العسكري لإيران بدلاً من العراق... خاصة وأن إسرائيل كانت قلقة من أن تؤدّي تغيرات المنطقة، لتحوّل إيران إلى القوّة المتفوّقة، لذلك حرصت على منعها من بلوغ هذا الموقع، وبهذا بادرت الأطراف الثلاثة إلى عرض موضوعنا النووي في وقتٍ متزامن» (آقاي سفير، ص 210).
في موقع آخر من الكتاب الحواري يؤكد ظريف على أهمية مؤتمر مجاهدي خلق، بقوله: «في أول أيام مهمتي التي دامت خمس سنوات في نيويورك (بدأت: آب 2002م) طُرح اتهام المنافقين [مجاهدي خلق] لكن لما كانت الأولوية لموضوع العراق، فقد بقيت قضية النووي ناراً تحت الرماد، إلى أن تغيّر كلّ شيء بعد أيلول 2003م، بصدور قرار مجلس محافظي [وكالة الطاقة الذرية] لندخل مع هذه الانعطافة لجّة (الصخب النووي)» (آقاي سفير، ص 209).
هذه أربع شهادات لظريف تكفي لوعي الدور الخطير لمؤتمر 14 آب 2002م لمجاهدي خلق، وأهميته في تكوين مسارات الملف النووي الإيراني منذ ذلك التأريخ حتى الآن، خاصة وأن ظريف شغل مواقع مهمّة في هذا الملف من كبير المفاوضين إلى رئيس الفريق التفاوضي، قبل أن يكون مسؤوله التنفيذي الأول عندما أصبح وزيراً للخارجية. بهذا المعنى يمكن القول ان البداية الفعلية للملف الإيراني دولياً، انطلقت مع ذلك المؤتمر الصحفي الذي أفشى فيه مجاهدو خلق نشاط إيران النووي، وكشفوا عن موقعين قيد الإنشاء في نطنز وآراك، ما يعني أن الاحداثيات السياسية للملف تشكلت زمنياً على عهد إدارتي محمد خاتمي (في المنصب: 1997 - 2005م) إيرانياً، وجورج بوش الابن (في المنصب: 2001 - 2009م) أميركياً.
فرضيات التفسير
لا ريب أن الساحة الإيرانية لم تتوحّد عند قراءة واحدة للملف النووي، بل تفرّقت أشتاتاً وتوزّعت بين قراءات مختلفة، منها ما ذهب إلى أن مشكلة النووي تنتهي إلى إشكالية وجودية معرفية أو بنيوية بين إيران والغرب، من زاوية أن لإيران مشكلة مع الغرب السياسي فلسفياً، ومن ثمّ من الطبيعي أن يعرقل الغرب مساعي إيران باتجاه النووي، وستبقى هذه الإشكالية متحكمة في العلاقة بين الطرفين على الصعيد النووي وغيره، حتى الوقت الذي تُبادر فيه إيران إلى تكييف أنموذجها مع الغرب. هناك قراءة أخرى تذهب إلى أن الغرب يتوجس من استقلال بلدان العالم الثالث ومنها إيران ويخشى تقدّمها، ومن ثمّ فهو لا يُطيق أيّ نوع من التقدّم العلمي والاقتصادي في هذه البلدان.
على طرف آخر برزت قراءة نقدية من الداخل الإيراني، تذهب إلى وجود ضرب من ذهان السهولة والسذاجة وسوء الفهم، في تقدير حجم الهواجس الأمنية للبلدان الغربية والاستخفاف بمخاوفها من البرنامج النووي، وحمل مواقفها من الملف النووي على العداء وسوء النية، في حين أن جزءاً من القلق العالمي حول قضايا إيران في النووي وغيره، له مبرّراته بطبيعة الترتيبات الأمنية للمنطقة، وتوازن القوى والأمن العالمي، مما لا يمكن إهماله أو العبث به وتجاوزه بسهولة.
بعرض هذه القراءات على ظريف يعلق عليها، بقوله: «أعتقد أنها جميعاً صحيحة إلى حدٍ ما» (آقاي سفير، ص 235) ليعود في المقابل لتقديم رؤيته عبر مصفوفة من العناصر يبلور عبرها نظريته التفسيرية التي تدخل في جملتها القراءات الثلاث المشار لها آنفاً؛ وهي ما نسميها بتأسيسيات الرؤية الأميركية أو الغربية على نحو عام.
ينطلق ظريف من نقطة أشبه ما تكون بديهية بالنسبة إليه: «أميركا لا تريد التقدّم التكنولوجي لإيران مطلقاً، وفي أي وقت من الأوقات، لكن بمقدورنا أن لا نُعطيها الذريعة» (آقاي سفير، ص 234). إذن، هناك داخل إيران من يُعطي الذريعة، ويعزّز الموقف الأميركي ضدّها. ربما كانت هذه إشارة إيمائية إلى إدارة الرئيس احمدي نجاد الصاخبة، كما إلى الخط اليميني المتطرّف الذي تبرز إحدى أكبر تجلياته، بصحيفة «كيهان» الطهرانية، ومن يلتفّ حول أفكارها ومواقفها.
إشكالية النموذج
من بين النماذج التفسيرية يميل ظريف إلى تبنّي فرضية الأنموذج، وأن مشكلة أميركا والغرب عامة مع إيران في النووي كما غيره، تعود إلى أنموذجها، فأميركا تعيش قلقاً عاماً من سلوك الجمهورية الإسلامية مع النووي وبدونه، وأسباب هذا القلق المشوب بالخشية تعود إلى: «وجود نظام يطلّ على العالم برؤية جديدة، ويتبنّى لنفسه رسالة عالمية، ولا يحدّ وجوده بأبعاد صغيرة. فبمجرد أن إيران تتبنّى هذه الرسالة لنفسها، وبصرف النظر عن ميزان قوّتها بالمقارنة مع قوّة أميركا؛ فإن ذلك بحدّ ذاته مُقلق كثيراً لأميركا، وهو أمرٌ غير مرغوب بالنسبة لها». (آقاي سفير، ص 228 ـ 229).
بهذه الرؤية فإن النووي ليس هو المشكلة، بل المشكلة هي الأنموذج الجديد والرسالة العالمية، والنووي تحوّل إلى محض ذريعة لأميركا وإسرائيل، ضدّ إيران. بل الأكثر من ذلك، يذهب ظريف إلى خطورة السلاح النووي ليس على المنطقة وحدها، إنما على إيران نفسها: «أعتقد أن السلاح النووي ليس خطراً على المنطقة وحدها، بل انه خطر على إيران نفسها؛ بمعنى أن السلاح النووي لا يوفّر لإيران الأمن ولا الردع؛ على العكس هو أكبر عامل خطورة، وولوج الموضوع النووي على نحوٍ عسكري، يُطيح بالمعادلات الستراتيجية للعالم والمنطقة، وأعتقد أن القيادات العليا في البلد تقبل هذا الرأي أيضاً» (آقاي سفير، ص 236). لكن ما الذي صنع هذا التصوّر للمسعى النووي الإيراني، وألبسه ثوب العسكرة والبحث عن السلاح؟ يذكر ظريف عوامل متعدّدة، من بينها: «طبيعة السلوك، ونوع التعامل، وذرائع الآخر، وشيء من سوء التدبير؛ كلّ هذه العناصر كانت باعثاً وراء تكوين هذا التصوّر. وما أعتقده أن جذر هذه المسألة يعود إلى سوء التفاهم، لا إلى أن إيران تسعى فعلاً وراء السلاح النووي» (آقاي سفير، ص 236).
اتجاهان
لا يمكن الإذعان لقراءة واحدة في قضية شائكة مثل النووي، حتى لو كان صاحبها بوزن محمد جواد ظريف. ففي داخل إيران نفسها هناك من يدافع بقوّة عن إيران نووية، وهؤلاء ليسوا قلّة، بل فيهم من يعتقد أن إيران تأخرت كثيراً عن الركب، خاصة بلحاظ الشوط الناجح الذي قطعته الصين والهند والباكستان والأرجنتين وجنوب أفريقيا، والتجارب المتعثرة في العراق وليبيا وبلدان أُخر.
كما أن هناك من يعرض المشهد داخل إيران، على أنه يسير على نحوٍ حثيث صوب النووية العسكرية، وأن هذا البلد قطع أشواطاً كبيرة باتجاه إنتاج القنبلة الذرية، لكن بأسلوب سرّي وهادئ محاط بالتكتم الشديد؛ هذا التكتم الذي كسره المؤتمر الصحفي لمجاهدي خلق صيف سنة 2002م؛ وحجة هذا الفريق في الداخل الإيراني، أن إيران بحاجة إلى السلاح النووي لتحقيق مصالحها الوطنية، هذا بالنسبة للاتجاه الوطني المتغلغل بعمق في كيان السياسة الإيرانية وأجهزتها المختلفة. كما هو ضرورة أيضاً لحماية أنموذجها، بالنسبة للاتجاه الذي يؤمن أن لها رسالة عالمية مستمدّة من وحي الثورة الإسلامية ومبادئها!
حقيقة الحال أن ظريف لا يُناقش باختلاف الرؤى وتعدّدها داخل إيران، لكنه كمراقب وباحث ومحلل يتمسّك بوجهة نظره، ويعتقد أنها الأقرب لرأي كبار قادة إيران. يقول بدءاً: «أن تكون القنبلة الذرية بنفع المصالح الوطنية أو لا تكون كذلك؛ هذا موضوع خاضع للدراسة والبحث». ثمّ ينعطف موضحاً وجود اتجاهين في النووي الإيراني داخلياً: «طبعاً هناك نظريتان مختلفتان، وما أُمن به أن مسؤولي الجمهورية الإسلامية لا يعدّون القنبلة من صالح البلد، لكن هناك من يعتقد أن القنبلة الذرية يمكن أن تكون نافعة لإيران، تماماً كما أن هناك في الغرب نفسه من يعتقد أن امتلاك إيران للقنبلة الذرية ليس فقط لا يمثل خطراً، بل يرى أن ذلك باعثاً لإيجاد المزيد من المسؤولية، وأن يكون نظام إيران مسؤولاً، وبهذا من الممكن الحديث عن رؤيتين على الصعيد الدولي أيضاً» (آقاي سفير، ص 237).
مسؤولية الداخل
أما بشأن السيناريوهات التي تُرسم لإيران، وهي تصوّر المشهد الإيراني بأنه مُصمّم على النحو الذي يتحرّك فيه صوب امتلاك السلاح الذري، فإن ظريف يعزو ذلك داخلياً إلى الالتباس وسوء الفهم المقرون بالجهل وعدم التدبير، الذي رافق العملية منذ بدايتها، حيث يقول: «استنتاجي وتحليلي بصفتي مراقباً وليس مسؤولاً يريد أن يتحدّث باسم الجمهورية الإسلامية، إن ما حوّل موضوع الذري في إيران إلى ملف عالمي، هو سوء التفاهم وسوء التدبير، اللذان حوّلاه إلى أزمة عالمية... وأن التحليلات الخاطئة هي التي أوصلتنا إلى هذه الوضعية، التي دفعت الأوربيين والإسرائيليين للاستثمار فيها، أسوأ استثمار». يضيف: «وإلا إذا كان البلد يسعى إلى القنبلة الذرية، ويتحرّك خلف برنامج سري، فليس نطنز هي السبيل إلى ذلك، فالبرنامج السري للقنبلة الذرية لا يحتاج إلى هذا النظام، ولا يتطلب هذه السعة والانتشار» (آقاي سفير، ص 237).
عناصر الإرباك الداخلي التي رافقت إدارة الملف النووي على هذا النحو، هي التي عزّزت المنطق الغربي ومن اصطفّ معه ضدّ إيران، ومنحته حجته القوية؛ هذه الحجة التي يلخصها ظريف على النحو التالي: «كيف يمكن لبلد أن يُذعن للعقوبات في سبيل الحصول على مصدرٍ للطاقة؛ بلد نفطي يُعرّض مصدر الطاقة النفطية هذا إلى الخطر، للحصول على مصدر آخر، قد لا يعطيه من الطاقة إلا عُشر الطاقة النفطية التي يُنتجها؟!» (آقاي سفير، ص 236). بنظر ظريف هذا هو مرتكز سوء الفهم الذي دفع الآخرين، لاتهام نوايا إيران النووية بعسكرة المشروع، وأنها تسعى وراء القنبلة والسلاح الذري، غذته سياسات خاطئة في الداخل، وأرخى بظلالها السلبية عليه تنافس مؤسّسات الداخل وصراع الأجنحة أحياناً.
التنافس المؤسّسي
التنافس بل الصراع بين الأجهزة والمؤسّسات، هو إفراز طبيعي لعمل البيروقراطيات الإدارية في جميع أنحاء العالم، لا يشذّ عنه بلد إلا أن يعطّل عمل أجهزته ومؤسّساته، ويغرق في الفردية والاستبداد المطلق، وكذلك الحال بالنسبة إلى إيران، فإيران لم تشذّ عن معادلة التنافس والصراع، حدّ الانزلاق إلى الاتهام بالأمركة والعمالة واستعمال لغة الاتهام بالتجسّس والتخوين، وتقاذفها بين الأجنحة السياسية وتخندقات حزبيات الصحافة!
الصراع الرئيس انطلق في إيران بين أجهزةٍ تنفيذية ثلاثة، هي منظمة الطاقة الذرية، وزارة الخارجية، والمجلس الأعلى للأمن الوطني، والأخير قد لا يتسم تصنيفه في خانة الأجهزة التنفيذية، بالدقة الكافية، لكنه على أي حال منغمس في التنافس والصراع مع بقية الأطراف.
يعطينا ظريف رؤية عميقة لهذا الصراع، وهو يتوغل به إلى عهد نظام الشاه (1941 - 1979م) فعند حديثه عن البروتوكول الإضافي الذي وقعته إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعد مفاوضات شاقة في فيينا، تبنّته منظمة الطاقة الذرية الإيرانية بالكامل، بعد أن عزلت وزارة الخارجية عن الملف تماماً، بذريعة: «إن هذا العمل تخصّصي، وينبغي ألا تتدخل وزارة الخارجية؛ حيث انصرف جهدهم بأكمله لكي لا تتدخل وزارة الخارجية، ومن ثمّ لم يكن للدبلوماسيين الإيرانيين مع الأسف، أي دور في البروتوكول الإضافي، بل تمركز التفاوض كاملاً بيد مندوبي إيران في منظمة الطاقة الذرية، وهؤلاء لا إحاطة لهم حقاً بالنقاط الدبلوماسية الحساسة ومعادلات السلطة»؛ بعد الحديث عن هذه الملابسات كلها، يعود ظريف ليقول نصاً: «إن هذا الصراع مستمر منذ عهد الشاه» (آقاي سفير، ص 198).
ثمّ يفصّل بعض جوانب هذا الصراع، بقوله: «لا يرتبط التنافس المؤسّسي خاصة بين منظمة الطاقة الذرية ووزارة الخارجية بعصر الجمهورية الإسلامية، بل تمتدّ خلفية هذا التنافس إلى عهد الشاه. فمنظمة الطاقة الذرية تعتقد أن مسؤولية متابعة جميع موضوعات الطاقة الذرية بما في ذلك الجانب المرتبط بالسياسة الخارجية للملف، هو من اختصاصها. وهذه المسألة [الاثنينية] كانت موجودة في عهد الشاه، لكن لما كانت وزارة الخارجية ومنظمة الطاقة الذرية، ينطويان كلاهما تحت سلطة الشاه ويخضعان له، فقد كان هذا التنافس تحت السيطرة إلى حدٍّ ما، لكن ما حصل في عصر الجمهورية الإسلامية أن هذه السيطرة تلاشت إلى حدٍ كبير، فراحت منظمة الطاقة الذرية تتابع البحث السياسي برؤية فنية، في مجال ليس لها فيه تخصّص» (آقاي سفير، ص 230).