أتاح لي موقع سينمانا، بعد طول انتظار، مشاهدة فيلم "الطفيلي" للمخرج الكوري الجنوبي يونغ جون هو، ليس لأنّ الفيلم من إبداع أحد أهم صنّاع السينما الاسيويين المعاصرين، بشهادة المخرج الشهير تارنتينو، الذي لا يرضى حتى على نفسه، ولا لكونه قادرا على صناعة أفلام ناجحة على الصعيد التجاري والفني، إنّما لقدرته على التعبير عن مشاكل مجتمعه والى حد ما كوكبه، بأسلوب سردي سلس مرح، والمرح هنا ليس ثيمة تزيينية، إنّما جزء من بنية ترافقه في معظم أفلامه، على الأقل تلك التي شاهدتها، على اختلاف تصنيفاتها (دراما نفسية، بوليسية، مستقبلية، كوميدية، رعب)، وهذا بالضبط ما يميز فيلمه "الطفيلي" المنتج في العام 2019، والحائز على سعفة "كان" الذهبيّة في العام 2019.
ويقص الفيلم حكاية عائلتين، تتماثلان في عدد افرادهما وتختلفان في ظروفهما، الأولى تعيش في بطالة وفقر مدقع، على ما يتمتعون به من ذكاء، والأخرى ترفل بغنى فاحش وتسكن قصرا باذخا، العائلة الفقيرة تعتمد على الآخرين في ديمومة حياتهم، بدءاً من سرقة "واي فاي" الجيران وانتهاءً بعملهم الوقتي في إعادة تدوير علب البيتزا، والأسرة الغنية تتكوّن من أبوين شابين وابنة مراهقة وطفل صغير يُعاني اضطرابا سلوكيا، وهم أقرب الى السذاجة لا سيما الأم التي تصدق كل شيء، تتقاطع مصائر العائلتين من خلال معلّم يُدرّس ابنة عائلة (بارك) الذي يجبر على ترك وظيفته لاكمال دراسته، فيقترح على صديقه الذي لم يدخل الجامعة بعد، أن يحل محله، ولكي يحصل على المؤهلات المطلوبة زوّرت له أخته الخبيرة في أسرار الحاسوب وبرامج الفوتوشوب وثائق جامعية، يقتحم القصر ويضع خططا شيطانيّة بمعاونة أسرته لاحتلال القصر، فيزيحون الموظفين السابقين ويحلون مكانهم، موهمين بارك (كي سون كيون) وزوجته بأنّهم غرباء لا يعرف بعضهم بعضا، يستغلون سفر أسرة بارك فيدخلون القصر ويتصرفون كمالكين، ثمّ تصل مديرة المنزل السابقة، التي أخرجوها بمكيدة، فتنقلب الأحداث رأساً على عقب، بعد أن يكتشفوا أنّها تخفي زوجها في القبو، يحتدم الصراع بين العائلتين، ينتهي بمجزرة. منذ اللقطات الأولى أوقعنا المخرج في حبائل لعبته التي يجيد حبك احداثها، فبعد أن عرفنا بواقع العائلة الفقيرة من خلال بؤس المكان، بث إشارات هنا وهناك تؤثث لأحداث مقبلة بإيقاع سردي بطيء لكنّه غير ممل، فعلى الرغم من سوداوية الواقع، الا ان محاولتهم لدخول عالم الأغنياء من خلال التطفّل عليهم بالتزوير والاحتيال، تضفي حيوية على تلاحق الاحداث، التي تتفجّر بدخولهم القصر، ويحدث التحول الكبير في مسار الاحداث بعد اكتشافهم أنّ زوج مديرة المنزل مختفٍ داخل قبو القصر.
ثمة سيناريو- كتبه المخرج- محبوك بدقة؛ بث إشارات ودلالات من دون تشتيت مسار الاحداث والشخصيات، فالمخرج يمتلك رؤية متقدمة ووعيا حقيقيا بطبيعة النظام الرأسمالي في كوريا الجنوبية، فتراه يشير الى الصراع الطبقي لكنّه ليس تقريريا، إنما نفذ تتابع احداثه بأسلوب تشويقي، معتمدا المفارقة بين مكانين: إحداهما باذخ وحداثوي والآخر بائس ومطمور تحت الأرض.
الفيلم الذي تداخل في سرد احداثه أكثر من أسلوب، فتراه أحيانا كوميديا ومرة مرعبا وأخرى بوليسيا، ثم ينتهي نهاية تراجيدية بمفهومية شكسبير، ولكل نوع طريقته المحكمة بالتنفيذ، فهو ليس مخرجا تقليديا، انما صانع أفلام عارف، كل شيء لديه محسوب، فمثلا طعن بارك من قبل سائقه لم يأتِ مصادفة، بل تراكم من كم الاهانات التي تلقاها كيم، ابتداءً من انتقاده لرائحته التي تشبه رائحة الفجل وانتهاءً بمسخه من قبل زوجة بارك التي حولته الى محض تابع ذليل ينفذ رغباتها ورغبات طبقتها. ومن وجهة نظري المتواضعة، فإنّ فيلم "الطفيلي" هو الأفضل في
العام 2019.