ترتبط ذاكرة الإنسان المسلم وما يختزنه عقله وضميره في شهر محرّم الحرام، بقضيتين اعتبارية وحقيقية؛ الاعتبارية هي التوقيت الزمني لبداية التأريخ الهجري.
والسبب في اعتبارية هذه القضية أنها أمر تواضعَ عليه المسلمون لتنظيم تأريخهم، وإلا فالجميع يعرف أن النبي صلى الله عليه وآله، لم يهاجر إلى المدينة من مكة في شهر المحرم، وأن هذا الشهر لم يُسجّل للنبي حركةً من مكة المكرمة، أو وصولاً إلى المدينة المنوّرة، إنما حصلت الهجرة بإجماعٍ تأريخيّ في شهر ربيع الأول، تحديداً في النصف الأول من هذا الشهر، وبهذا يكون ربط بداية شهر المحرم بالهجرة ربطاً اعتبارياً، ناشئ عن مواضعة أو اتفاق جرى عليه المسلمون، لتحديد بداية صفرية لتأريخهم.
وللاعتبار دوره الخطير المؤثّر في صياغة الحياة الإنسانية، وتسييرها صوب مقاصدها، ولو تعطّل الاعتبار لحظة لاضطربت حياة الإنسان، وتحوّلت إلى فوضى ضاربة في تفصيلات كبيرة، من حياة الناس وأنظمتهم وضوابط سلوكهم.
أما القضية الحقيقية فهي بلا ريب واقعة 1/ 1/ 61 هـ حين خرّ الإمام سيّد الشهداء الحسين بن علي صريعاً في عرصة كربلاء، مع أسرته وأهل بيته وثلة رابطت معه، من أنصاره ومحبيه.
اكتسبت حركة الإمام سيّد الشهداء وواقعة كربلاء، أوصافا عديدة في المدوّنات القديمة والحديثة، فقالوا فيها إنها ثورة أو حركة أو نهضة أو واقعة، إلى ما شابه ذلك من الوصوف، لكن يبقى الوصف الحسيني هو الأصوب، بدأت الواقعة زمنياً أواخر شهر رجب سنة 60هـ، حين بلغ المدينة خبر وفاة معاوية، فغادرها الإمام الحسين صوب مكة امتناعاً عن بيعة يزيد، ومكث في مكة حتى العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، ثمّ تحرّك صوب الكوفة قبل أن يُجعجَع به إلى كربلاء التي وصلها في الثاني من شهر محرّم من عام 61هـ.
كان الإمام سيد الشهداء لا يزال في مدينة جدّه الرسول، حين دعا بدواةٍ وبياض وكتب وصيته التي أودعها أخاه محمد بن الحنفية، حيث يطيب لي دائماً أن أطلق على هذه الوصية"وثيقة المدينة". حدّدت هذه الوثيقة على نحوٍ مدوّن قاصِد، عنوان الحركة ومهمتها، ورسمت لها هدفها، وحدّدت الأسلوب والمنهاج.
اكتسبت الحركة في الوصف الحسيني، عنوان "الإصلاح"، ومهمتها "الإصلاح في أمة الرسول" وأسلوبها في الفعل، هو: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ومنهاجها الذي تقصده وإطارها الشرعي العملي الذي تسمو إليه وتصبو إلى تحقيقه، هو سيرة النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "أسيرُ بسيرة جدّي محمد وأبي علي بن أبي طالب".
هي إذن، حركة إصلاحية واضحة منذ البدء، لم تَحد عن مواصفاتها، ولم تضطرب لها رؤية منذ أن وضع لها سيّد الشهداء منهاجها، حتى خاتمتها المفجعة على أرض كربلاء.
كان لهذه الحركة ميزان واحد، هو الحقّ، لم تمل إلى غيره، ولم تفرضه بالقوّة والسلاح أو أي لون من ألوان الفرض والقسر، ولم تخلط معه شعار العشيرة أو المنطقة أو العُرف أو العرق وما إلى ذلك، وتركت الإنسان حراً في الاختيار: "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر". سلام على الحسين يوم وُلد ويوم اُستشهد ويوم يُبعث حياً.