لماذا الأطباء بطبيعتهم أدباء؟

ثقافة 2019/09/02
...

كتابة: جنيفر ر. برنشتاين
ترجمة / جمال جمعة
طالما كان الأطباء أدباء بالقدر الذي كانوا فيه أطباء. منذ زمن جالينوس، الجراح والفيلسوف الإغريقي، إلى ابن سينا في العصور الوسطى، مروراً بمفكري عصر التنوير العظام، عملياً فإن أي عالمٍ كان يمكن أن يعتبر نفسه خبيراً ندّاً في فن السرد. الانقسام الصارم بين العلوم الأدبية والعلمية هو ابتكار حديث. حتى أن جالينوس كتب بحثاً أسماه "عظة في تدريس الفنون"، موجهاً الأطباء لتطوير فطنة أوسع، إضافة إلى كتيّب صغير بعنوان "أفضل طبيب هو فيلسوف أيضاً".
إذا حكمنا من خلال كمية ونوعية الكتابة من قبل الأطباء في العقود العديدة الماضية وحدها، فيمكنني أيضاً أن أشير إلى أن بعض أفضل فلاسفتنا كانوا أطباء. لائحة الأطباء الذين تحولوا إلى كتّاب طويلة ومتنامية بلا انتهاء: إبراهام فيرغيز، فيكتور فرانكل، أوليفر ساكس،، إرفين يالوم، وإلخ. هنالك أيضاً سلالة متينة من الأطباء الذين أصبحوا كتّاباً في المقام الأول، على العكس من الأطباء الذين مارسوا الكتابة كهواية ثانوية: ووكر بيرسي، ويليام كارلوس ويليامز، سومرست موم، أنطون تشيخوف، والعديد غيرهم. بعضهم عاين، بل وحتى ساعد في تشخيص روح العصر عبر عدسة المرض، مثل سيدهارتا موخرجي، الذي ابتكر نهجاً ثقافياً ـ تاريخياً للكتابة عن السرطان. آخرون منهم توصلوا إلى الفلسفة عبر سبر الأسئلة الأساسية حول الأخلاقيات الطبية، الممارسات، الوفيات، مثل أتول جاواندي. في كتابه "أن تكون فانياً"، دراسته عام 2014 حول كيف ومتى نموت، يكتب جاواندي: "كنا مخطئين بشأن وظيفتنا في 
الطب. نعتقد أن مهمتنا هي ضمان الصحة والبقاء على قيد الحياة. لكنها في الحقيقة أكبر من ذلك. إنها تتعلق بتمكين الرفاه. والرفاه يتعلق بالأسباب التي تجعل المرء يرغب بالبقاء حياً.يفهم جاواندي أن ممارسة الطب تستلزم المواجهة مع أشياء أساسية؛ مع القاعدة المادية والظروف العاطفية لحيواتنا. حين يأتي المرضى إلى أطبائهم مصابين بالسرطان، بآلام غامضة، وحتى بنزلات برد شائعة، فهم لا يلتمسون فقط علاجاً لأمراضهم، بل والعودة إلى الحالات التي فيها يزدهرون. هذه الحالات تتفاوت من مريض على آخر ـ 
ومن ثم فإن مسؤولية متعهد الرعاية الصحية هي التحقق من القصص المهيمنة التي يرويها المرضى بأنفسهم عمن همُ وعما يقيّمون. 
ينبغي على الأطباء أن يصغوا إلى قصص المرضى عن حيواتهم ويشاركونها لغرض تحديد ما هم مهم بالنسبة إليهم، ومن ثم ما يستحق صونه، ويستحق الكفاح من أجله. إذا كان المريض يرى نفسه كبطل في قصة مأثرة رياضية، عندئذ سيرغب أن يختار الجراحة لترميم رباط الركبة الممزق، وليس العلاج الطبيعي فقط، لكي يتمكن من العيش ليلعب يوماً آخر. لكن إذا كان المريض متحسباً، يخشى المضاعفات المحتملة والآثار المترتبة عن التواجد تحت المشرط، عندها فقد يكون من الأصوب بالنسبة له أن يعيد تأهيل 
الساق. 
ثمة القليل من معايير العلاج الصحيحة بشكل موضوعي، اتضح أنها: ما يؤثّر فقط
، وبمن، وفي أي وقت.  هذا الوضع يقدم مثالاً منخفض المخاطر نسبياً لكيفية أن السرد الذاتي يمكن (ويجب) أن يوجه العلاج. بعض الأطباء كتب عن حالات أكثر إلحاحاً. مذكرات بول كالانيثي الأكثر مبيعاً، "حين يصير التنفس هواءً"، تقتفي رحلة المؤلف خلال الكلّية، التدريب الطبي، وأخيراً فترة التخصص في الجراحة العصبية، في السنة الأخيرة منها يتم تشخيص اصابته بسرطان الرئة من الدرجة الرابعة. وبمقدار قليل من الوقت غير المحدد (لكن ربما ينقطع) المتبقي له، ينهي كلانيثي فترة تخصصه، يكتب مذكراته، ولديه طفل من مع زوجته لوسي التي كانت طبيبة أيضاً. يتفق بأول ولوسي على أن قيمة الحياة لا تأتي من تجنب الألم، لكن من خلق معنى؛ قرارهما بالإنجاب في مثل هذا الوقت العصيب يؤيد هذا
 الاعتقاد.
يمضي كالانيثي الكثير من بقية الكتاب مفصلاً بالحديث عن نشأته والمسار الفكري الذي قاده إلى الطب. الكتاب يخبرنا بأنه، قبل أن يقرر الدخول إلى الكلية الطبية،  كان يريد أن يصبح كاتباً، ليستكشف الحقائق الجوهرية التي تكمن تحت السلوك البشري والعلاقات الإنسانية. في نهاية المطاف يختار أن يتعقب هذا الهدف من خلال ممارسة الجراحة، لكن القارئ يستشعر بأنه كان يمكن أن يمضي في كلا الاتجاهين. أظن أن بعض السمات الشخصية المتشابهة تجتذب الناس إلى كلا الاختصاصين: الفضول بشأن الطبيعة البشرية؛ الاهتمام بالسبب والنتيجة؛ الرغبة العميقة في التواصل من خلال إتقان 
الحرفة. 
في مسيرته المهنية الجراحية عثر كالانيثي على الغنى في "قراءة" قصص حياة مرضاه، في معرفة من يكونون خارج المستشفى: الذي يأملون في العودة إلى الوجود. 
حينما يقوم بشق دماغ المريض، يفكر بعائلته، بهواياته وطموحاته. استدعاء هذه التفاصيل الشخصية يذكره بقيمة الرهان الذي تحت يديه، ولماذا لم تك مزاولة الطب مجرد مهنة، بل هو في الحقيقة نداء:
"لا أعتقد أبداً بأنني قد قضيت دقيقة واحدة في أي يوم متسائلاً لماذا أنا قمت بهذا العمل، أو فيما إذا كان يستحق كل هذا العناء. النداء لحماية الحياة ـ وليس مجرد الحياة بل هوية شخص آخر، وربما لا نبالغ أن نقول روح شخص آخر ـ كان جلياً في قدسيته. أدركت، قبل أن أقوم بجراحة في دماغ المريض، أنني يجب أن أفهم عقله أولاً: هويته، قيمه، ما الذي يجعل من حياته تستحق أن تعاش، وأي خراب يجعله يتقبل ترك تلك الحياة تنتهي. كانت كلفة تفانيّ في تحقيق النجاح باهضة، وأدت بي الإخفاقات التي لا مناص منها إلى شعور بالذنب لا يطاق تقريباً. هذه الأعباء هي التي تجعل من الطب مقدساً ومستحيلاً تماماً: حين تحمل صليب شخص آخر،  يجب أن ينسحق المرء تحت وطأة الثقل في بعض 
الأحيان".
بالنسبة لكالانثي، وللأطباء العظام عموماً، ليس ثمة هبة أعظم من حمل عبء إنسان آخر، على الأقل ما دام تحت رعايتهم. بعد كل شيء، فالتدخل بشكل دراماتيكي كبير في قصة شخص آخر هو في تولي عبء عظيم من المسؤولية. لا عجب في أن يجد معالجونا أنفسهم مندفعين لمشاركة المغامرات الإنسانية التي تشكل حياتهم اليومية ـ لاجتذاب البقية منا إلى مملكة يمكن أن تكون، قبل كل شيء، وحيدة بشكل 
رهيب.     
  
عن The Ploughshares Blog