لو أتيح لك أنْ تقضي ليلةً في مركز شرطة، كم تتوقع من الحوادث التي يشهدها ذلك الليل، اقتياد مجرمين وحوادث سير والقاء قبض على لصوص وارتكاب فواحش أخلاقية ودعاوى خارج المألوف الإنساني وغير ذلك من سقط متاع الحياة والمجتمع حتى تكاد تحكم على المجتمع قاطبة بانه تحت الحضيض، ولو اتيح لك أنْ تقضي ليلة في احد المستشفيات، كم تتوقع من الحالات المرضية التي ستشهدها تلك الليلة من آلام وأمراض ويأس وربما موت بما يوحي لك أن العالم ينتهي برمته هذه الليلة، ولو اتيح لك أن تكون جنديا في حرب أو زائرا لمدينة انتاج سينمائي أو مصنع او مهرجان ادبي او نقطة تفتيش على الحدود أو نزاع عشائري أو أي من المؤسسات، يقينا ستشهد كثافة في أحداث وحالات ومواقف، توحي لك ان لا أحد طبيعياً في هذا المجتمع أي مجتمع على هذه الارض.
اخطر ما يقع فيه المرء هو أن يحكم على الحياة برمتها من خلال ما يراه في تلك الليلة او قرب تلك المشاهد، وان يعممه وان يعتبره عينة أساسية لقياس ما يحدث في مدينته وبلاده عموما، حيث تتحول الواقعة الحقيقية الى مادة تضليلية تجعلك تنظر الى المشهد العام من خلال ما انتجته لك تلك الليلة.
استطيع القول جازما ان هذا الأمر هو سبب الاضطراب الإعلامي الذي دفع مؤسساتنا عن جهل او قصد لتحطيم المجتمع وزعزعة ثقته بنفسه، التركيز على جانب دون جوانب الحياة الأخرى يهدم النفس البشرية ويؤسس لمجتمع خائف مهدد في حياته ووجوده ومستقبله، كل الوقائع تصلح عينات دراسة وبحث ونصح وتصحيح لكنها لا تصلح لان تكون صفة عامة للمجتمع، فالتضليل في احد تعاريفه وآليّاته الانتقاء وطرق التسويق، وهو ما يمثل سلاحاً فتاكا في السياسة الإعلامية الدولية والمحلية على حد سواء، انت تقتنع بأنك في مجتمع بلا أمل ولا رجاء ولا فرصة للتنمية والاصلاح لأنك لا ترى غير ما تشهده تلك الليلة والعين الانتقائية التي لا تركز الا على الظلام.
إن تشخيص الظواهر السلبية يحكمه دافعان مختلفان تماماً، القضاء على المجتمع او النهوض به، الاول بجعل الحالة ظاهرة والظاهرة طباعاً متأصلة، والثاني يحدد اسبابا ومعالجات لما يحدث.
فنحن نكافح الفساد باسم دولة مترامية الاطراف وشعب منتج يعمل ويحلم ويحارب الخلل، ونحن نناضل ضد التبعية وسوء الادارة في دولة تمتلك كفاءات حديثة قادرة على الاصلاح ونحن نعمل على فضح الامية الابجدية والسياسية في بلد حافل بالابداع والثقافة والانجاز الفني، ونحن ندين التراجع في الصناعة والزراعة وانضباط المؤسسات وتطورها في بلد لديه من الخيرات والجمال والطبيعة وفرص الحياة الكثير، لابد من ان تكون الصورة الايجابية حاضرة ونحن ننشد الاصلاح، لأن مجتمعا محبطا يائساً من كل شيء وحزينا ورخوا غير منتج هو علّة مزمنة صعب الشفاء منها حتى وإن توفرت فرص لذلك.