جمهورية النجف ومستقبل المرجعية الدينية في العراق

العراق 2019/09/15
...


ابراهيم العبادي
 
يصر بعض الباحثين على التأكيد بأن احدى اكبر مشكلات العراق تمثلت على الدوام بغياب الاباء المؤسسين الكبار الذين خبروا المجتمع العراقي وعرفوا مشاكله المزمنة وعيوب سلطاته المتعاقبة واحتاطوا لتنوعه وضعفه،  غياب هذا الصنف من الفاعلين السياسيين كلف العراق صياغات دستورية وقوانين وتشريعات وسياسات  ما لبثت ان تحولت الى عوائق محبطة لكل استقرار وتماسك وسيادة تحتاجها الدولة العراقية، لتمضي في طريقها نحو الامن والسلام والازدهار، بقي العراق ينوء تحت ثقل ايديولوجيات سلطوية تمتح من مرجعيات متعددة، مركزها خارج حدود الجغرافيا العراقية.  ويعاب على العقل السياسي العراقي انه عقل غير مستقل، بل عقل مستقطب الى الخارج على الدوام، لا تحضر في قراراته مصالح العراق، الا وتكون مرتبطة بمصالح الاخرين تحت عناوين وذرائع مختلفة، مرة بالعنوان القومي العروبي، ومرة بالعنوان المذهبي، وثالثة بالعنوان الاممي، ما حصل بعد ولادة الجمهورية الجديدة التي صاغها دستور عام 2005، يشير بوضوح الى ان تقاطعات الخارج وتناقضات الداخل، وصراعات الاحزاب والهويات الفرعية وغلبة النزعة الانعزالية لدى الفئات العراقية، قاد الى بناء هجين، لا يؤسس لاستقرار سياسي ولا يتجاوز المخاوف المختلفة  للجماعات  السياسية العراقية، بل جعل  البلاد عرضة لتدخلات (حميدة!) وغير حميدة، اضعفتها للغاية وتركت نظامها السياسي فاقدا لقدرة اتخاذ القرارات الجريئة التي تحفظ سيادة البلاد وتفرض قوانينها وتحمي امنها. ومنذ بداية تأسيس هذه الجمهورية القلقة، احتاج سياسيو العراق وطبقاتهم الاجتماعية الى حكيم يلتجؤون اليه عندما تستعصي الامور وتنغلق المسارات نحو الحلول الضرورية، فوجدوا في النجف ومرجعيتها العليا ملاذا، يستصرخونها في المنعطفات الكبرى، فكان للسيد السيستاني حضوره الفاعل وثقله الحاسم الذي جربه العراقيون بأجمعهم،  حتى صار ممكنا القول بحق،  ان جمهورية العراق الحالية،  هي جمهورية النجف بامتياز، لان مرجعية السيد السيستاني كانت تشير وتنصح وتفتي لصالح تسديد النظام السياسي وتمكينه من القيام بوظائفه، وتوجيه الجمهور الوجهة السليمة،   من اجل ان تقوى القواعد الدستورية والسياسية للدولة،  وينتظم مسار الحكم، وتتأسس العلاقة مع الجمهور على اساس عقد سياسي - اجتماعي، اركانه التفويض المشروط،   والحرية المنضبطة  والاختيار المسؤول. تدخلت مرجعية النجف لصالح دستور دائم وقوانين عادلة وفك الاشتباك المذهبي والطائفي والقومي، وتدخلت للدفاع عن البلاد،  ولم تبخل على احد بمشورة ونصيحة لانقاذ البلاد والعملية السياسية من انسداداتها وعقدها الكثيرة، ولذلك تعود السياسيون وكذا عامة الشعب، على منهج واسلوب خاص، اختطته المرجعية السيستانية اكسبتها ثقة الجميع، وككل كيان بشري يؤول الى النهايات، فقد كثر الحديث والسؤال عماذا لو افتقد الجميع هذه المظلة؟ ويقصدون به ماذا بعد السيد السيستاني اطال الله عمره، وهل ستنتكس السيستانية كمنهج واسلوب؟ ام ان هناك امتدادا لها، شخوص ومؤسسات؟، أجوبة السيد حامد الخفاف مدير مكتب المرجعية في لبنان، المحسوبة بدقة مكانا ومناسبة، فندت فكرة التوريث، واطاحت بالمراهنة على جعل (براني) بيت السيد، مركزا لادارة مرحلة الما بعد، فالمرجعية الشيعية ستظل تعمل بآلياتها التقليدية، ولادة واستمرارا وحضورا، والاكثر من ذلك، ان تقاليد حوزة النجف الصارمة ستمنع التدخلات واللوبيات او على الاقل ستحد من تأثيرها الغالب، وعليه فان على الجميع الاستعداد لهذا الفراغ الخطير، يبقى الكلام عن المؤسسات النافذة، خاصة ادارات العتبات التي بدأت تطولها سهام النقد،  بسبب مشاكل  الادارة وتغول السلطات وتمدد الصلاحيات،   وهذه المؤسسات مشمولة بقوانين الدولة ورقابتها، فضعف الدولة هو الذي يمنح الاخرين،  جرأة التوسع في النفوذ والصلاحيات، والا فان المرجعية السيستانية اختطت  منهجا هو الاسلم والاحكم،  في تاريخ المرجعيات الحديث، وبقيت مشكلة العقلانية الدينية والسياسية تمثل النقص الواضح في من هم دون المرجعية العليا،  وسيجدون انفسهم يتامى نقص حكمتهم،  وضعف تدبيرهم، يوم يرحل المرجع الاعلى اطال الله في عمره، وحفظه ركنا شديدا، تحتاجه دنيا السياسة والدين، في هذه الايام العصيبة.