الثائر المتمرّد !

الصفحة الاخيرة 2019/09/16
...

 جواد علي كسّار
 
على مدار عقود وأنا أعود إلى قصته دائماً، لا أملّ من ذلك، وها أنا أفعل هذه السنة أيضاً. شخصية كوفية عظيمة المنزلة، يشتهر بالشجاعة والمهابة والإقدام، ينحدر من أسرة عربية أصيلة. عندما تنآى إليه أن الإمام سيّد الشهداء في طريقه إلى الكوفة، غادرها احترازاً من أن يكون ضدّه، لكن أيضاً من دون أن يكون معه.
في واحدة من محطات الطريق صوب العراق، لاحظ الإمام الحسين فسطاطاً مضروباً، فسأل عن صاحبه فقيل له أنه لعبيد الله بن الحر الجعفي، فبعث إليه رسولاً يطلب لقاءه فرفض، وطلب من الرسول أن يُبلغ الحسين: إنه ما دعاني إلى الخروج من الكوفة، فراراً من دمك وأهل بيتك وأصحابك، ولئلا أعين عليك.
باغته الحسين حين بادر لزيارته إلى خيمته، فقام إلى استقباله واحتفى به وأجلسه صدر المجلس، وفي بعض الروايات أنه قبّل يديه ورجليه، وحين استقرّ بهما المجلس، خاطبه الحسين: ما يمنعك يا ابن الحرّ أن تخرج معي؟ أجاب ابن الحر: لو كنتُ كائناً مع أحد الفريقين لكنتُ معك، من أشدّ أصحابك على عدوّك، وجدّد اعتذاره. هذا باختصار شديد كان موقفه مع الحسين قبل واقعة الطف.
تتفق كلمة جميع من كتب عن سيرته، أن عبيد الله كان ثائراً متمرّداً لا يُعطي للأمراء طاعة، ولا يلين لهم. فقبل أكثر من عقدين من هذه الواقعة، ترك الكوفة وفيها أمير المؤمنين، متجهاً إلى معاوية في الشام فأكرمه، لكن ابن الحرّ رفض أن يترك جماعته التي تحيط به، وهم خمسون فارساً، وقال في جواب معاوية، دفاعاً عنهم: أنهم بطانتي أقيهم وأتقي بهم، فقال له معاوية: يا ابن الحر لعلك قد تطلعت نفسك نحو بلادك ونحو علي بن أبي طالب؟ فردّ عليه مغاضباً: إني لجدير بذلك، وترك الشام صوب الكوفة، فقال له الإمام علي: يا ابن الحرّ أنت الممالي علينا عدوّنا؟ فقال في جواب الأمير: أما أن ذلك لو كان، لكان أثره بيّناً معه، وما كان ذلك مما يُخاف من عدلك. أما بعد مقتل سيّد الشهداء، فقد أبدى من نفسه ندماً عظيماً، وكان أول من بادر لزيارة مشهد الواقعة، وراح ينشد قصائد نادمة يعبّر فيها عن ألمه وزفرات نفسه، لعدم نصرة الحسين. بادر بعدها للعودة إلى الكوفة فأخضعه حاكمها ابن زياد لاستجواب، وسأله عن سبب تخلفه عن الجيش الذي قاتل الحسين، ثمّ اتّهمه بأنه كان مع الحسين، فقال في جوابه: لو كنتُ معه لم يخف مكاني، فانسلّ هارباً إلى المدائن، وفتح معركة والفرسان الذين معه، ضدّ ابن زياد حاكم الكوفة، والمختار الثائر في العراق، ومصعب بن الزبير، وحين استقرّ الأمر للمختار كتب إليه، أن الغضب للحسين ومقتله هو ما يجمعهما، وطلب عودته إلى الكوفة، فأبى فاحتجز المختار زوجته، فداهم ابن الحرّ الكوفة ليلاً، واحتال على المسالح العسكرية، ودخل قلب المدينة فاقتحم السجن وحرّر زوجته ومعه مئة فارس.
حاول مصعب أن يكسبه إلى جواره، فلعب عليه بالتواصل مع عبد الملك بن مروان بالشام الذي منحه المال ووعده بالرجال، فتوجّه صوب الأنبار، فاستأذنه أصحابه بالذهاب إلى الكوفة، لما أذن لهم انتهز حاكم المنطقة من قبل مصعب بن الزبير، فأرسل إليه بمئة فارس وأمدهم من بعد ذلك بخمسمئة، فانفلت ابن الحرّ منهم، بعد أن أُصيب بجراحات وخيمة، وحين هجم من يريد أسره، احتضنه وألقى نفسه وغريمه في النهر، فغرقا معاً، ليكون ذلك هو المشهد الأخير في حياة هذا الثائر المتمرّد!