يعدُّ مفهوم الجريمة السياسيّة من أكثر المفاهيم إثارة للجدل والنقاش في الفقه الجنائي الحديث؛ نظراً لأهمية النتائج التي ستترتّب على اعتبار هذا الفعل جريمة سياسية من عدمه، وكذلك لصعوبة التمييز في أغلب الأحوال بين هذا النوع من الجرائم ومثيلاته من الجرائم العادية، هذه الأسباب هي التي أنتجت فيما بعد خلافاً فقهيّاً بين مذهبين فقهيين اجتهد كلّ منهما لوضع تعريف جامع مانع يستطيع توصيف الجريمة السياسيّة يُحدد ملامحها، فقد عرف المذهب الموضوعي في الفقه الجنائي الجريمة السياسيّة على أنّها الجريمة التي تقع على الحقوق السياسيّة للمواطنين او على نظام الدولة السياسي، أما المذهب الشخصي فقد عرّفها على أنّها تلك الجريمة التي تقع بباعثٍ او دافع سياسي، ويلاحظ ان كلا من المذهبين لم يعرف الجريمة تلك تعريفاً شاملاً، بل ان كلا منهما انطلق من نطاقه الخاص الضيّق، الى أن برز فيما بعد اتجاه ثالث زاوَجَ بين الرأيَيَن السابقين وعرّف الجريمة السياسيّة أنّها تلك التي تقع على كيان الدولة السياسي او الحقوق السياسية للناس وتكون بباعث سياسي، وهذا ما أخذ به المشرّع العراقي، إذ نص في المادة 21 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل على أنّ “الجريمة السياسيّة هي الجريمة التي ترتكب بباعث سياسي، أو تقع على الحقوق السياسيّة العامة والفرديّة، وفيما عدا ذلك تعد الجريمة عادية، ومع ذلك لا تعد الجرائم الآتية جرائم سياسيّة ولو ارتكبت بباعث سياسي:
1 – الجرائم التي ترتكب بباعث أناني دنيء.
2 – الجرائم الماسَّة بأمن الدولة الخارجي.
3 – جرائم القتل العمد والشروع فيها.
4 – جريمة الاعتداء على حياة رئيس الدولة.
5 – الجرائم الإرهابيّة.
6 – الجرائم المخلّة بالشرف كالسرقة والاختلاس والتزوير وخيانة الأمانة والاحتيال والرشوة وهتك العرض.
ب – على المحكمة إذا رأت أنّ الجريمة سياسيّة أن تبيّن ذلك في حكمها.
وباستعراض هذا النص نجد أن المشرّع أخرَجَ من خانة الجريمة السياسية مجموعة من الجرائم التي تتسم بسمةٍ واحدة وهي تهديدها المباشر لأمن الدولة أو مصالح الناس وعيشهم، وحسناً فعل المشرّع لمّا نص على ذلك صراحةً إذ جنبنا مشقّة التفسيرات الواسعة والآراء الفقهيّة المتضاربة حول هذا النوع من الجرائم لو أنّه أورده عاماً دون تبيان.
إنّ أهمية تعريف الجريمة السياسيّة وتمييزها عن الجريمة العادية تكمن فيما يمكن أن يترتّب على الجريمة الموصوفة بالسياسيّة من نتائج، فقد خصّت معظم التشريعات الجنائيّة المجرم السياسي بشيء من الخصوصيّة تتناسب مع طبيعة هذه الجريمة التي تعد موقفا فكريا ضد السلطة، وفرضت نوعا من التعامل يليق بالمستوى الاجتماعي السياسي. كما نصّت معظم التشريعات الجنائيّة على وجوب تخفيف العقوبة اذا ثبت ان الجريمة كانت سياسية، وتمنع كذلك تسليم المجرم السياسي اللاجئ اذا ما طالبت به دولته وغيرها من الامتيازات، اما قانون العقوبات العراقي فقد نص في المادة 22 على “1- يحل السجن المؤبّد محل الإعدام في الجرائم السياسيّة.
2 – ولا تعد العقوبة المحكوم بها في جريمة سياسية سابقة في العود ولا تستتبع الحرمان من الحقوق والمزايا المدنيّة ولا حرمان المحكوم عليه من إدارة أمواله أو التصرّف فيها.
وقد ساير المشرّع العراقي في نص المادة أعلاه الاتجاه الحديث في الفقه الجزائي الذي أخذت به غالبية الدول الديمقراطية، الا انه ومع شديد الأسف ظل هذا النص ومنذ تشريعه مجرد تنظير تشريعي لا مكان له على أرض الواقع، وتعرض الكثير من الناشطين السياسيين إبان فترة النظام السابق إلى أشد أنواع العقوبات التي كانت تمتد حتى الى أسرهم وذويهم خلافاً لمبدأ شخصية العقوبة، واللبيب الذي يتتبع هذا الموضوع يجد ان النظام السابق كان يتعمّد بإصرار المبدأ الجنائي الذي انتهجه المشرّع العراقي في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969، فنجده يُشدّد العقوبات لمجرد كون الجريمة سياسية، ولا يُحاكم السياسي إلّا بمحاكم خاصة تكون احكامها باتة غير خاضعة لطرق الطعن او الرقابة، ناهيك عن فرض عقوبات تبعية وصلت حد هدم الدار فضلا عن مصادرة الأموال.
بالعودة الى نص المادة 21 من قانون العقوبات نجد أنّه أخرج الجرائم الإرهابيّة من كونها جرائم سياسيّة وهذا النص أكدته المادة 6 / أولا من قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005 والتي اعتبرت الجريمة الإرهابية جريمةً عادية مخلّة بالشرف، وبذلك أغلق المشرّع الباب أمام الآراء التي تحاول إلحاق الجرائم التي تستهدف أمن الدولة وسكونها بالجرائم السياسيّة.
وبعد هذا الاستعراض السريع لحيثيات مفهوم الجريمة السياسية يبقى التحدي الأهم الذي يقع على عاتق الدول الساعة لتحقيق الديمقراطية السياسية وهو أن تطبّق ما تنص عليه تشريعاتها الجنائية على الواقع، وأن تأخذ بما يصل اليه الفكر الجنائي الحديث من متبنيات تُسهم في إنضاج فكرة الجريمة السياسيّة وتطويرها.