الارض هي ذات الارض والشعب هو الشعب، وما بين ماضينا التليد وحاضرنا المشرق، لغة تسامح نادرة وقلما نجدها في شعب اخر يحمل الطابع التكويني نفسه للمجتمع العراقي، فانت في الموصل كأنك في البصرة وفي الفلوجة وكأنك في الناصرية. حدثني احد الاصدقاء الصحفيين عن امرأة كبيرة السن من احدى مدننا العزيزة في الشمال جاءت الى كربلاء بمفردها فالتقت بامرأة من اهل المدينة ودار الحديث الطويل بينهما ليتضح بان المرأة الضيف خرجت من بيت ابنها الكبير نتيجة خلاف حاد بينهما ادى الى حدوث مشكلة وان الابن لم يحل تلك المشكلة وبأنه على ما يبدو لم يمنع والدته من مغادرة البيت.
فقررت التوجه الى كربلاء لزيارة العتبات المقدسة والبقاء فترة للراحة ونسيان المشكلة بين العتبتين وبين الناس حتى تهدأ النفوس. وبعد حديث امتد طويلا، اقتنعت المرأة الكبيرة السن بالحضور الى بيت المرأة الكربلائية والبقاء معهم. انقلب حال البيت وراح كل ساكنيه بالتسابق لتقديم خدماته للمرأة الضيف. فالابن الكبير احضر ملابس جديدة وعباءة تليق بها وراح الابن الاصغر بتقديم خدمته بنقلها في سيارته في ارجاء المدينة للتنزه وفك الكرب والضجر عنها وراحت امهما بتقديم افضل الاطباق الشهية لها واعدت لها غرفة خاصة مجهزة بجهاز تكييف. ظلت الضيفة اكثر من عشرين يوما تعمدت العائلة الكربلائية بعدم الاتصال بابن الضيفة لكي تطول مدة قامتها في بيتهم لأنها صارت واحدة منهم. في صباح احد الايام طلبت الضيفة الاتصال بابنها لتعلمه بمكان اقامتها وحتى لا يقلق عليها حسب ما تقول بان قلبها يشعر بالحزن على ابنها لأنه قد يبحث عنها ولم يجدها فتنقلب حياته جحيما كما قالت. وفعلا طلب الابن الحضور الى كربلاء لأخذ والدته ولكنه كان قلقا. عرف المضيفون سر قلق الابن ولكنهم طمأنوه وقالوا له لا فرق بينكم وبيننا واننا لكم كالأهل والخلان ولا فرق وسنكون لك غطاء وفراشا وعينا حاميّة. جاء الرجل الى كربلاء وظل بينهم ثلاثة ايام واصطحب والدته وذهب شاكرا ومتعجبا وعبارات العرفان لم تنقطع من لسانه. ظلت الاتصالات بينهما ولم تنقطع حتى اليوم. لم اتعجب من قصة صديقي ولم اناقشه عن مدى تحمل العائلة للضيفة والاعباء التي تكون قد تحملتها، لكني كنت مبتسماً لجمال الروح التي تمتلكها العائلة وهي بالتأكيد عينة صغرى لنموذج كبير وهو كل بيوت المدن التي ستفعل ما فعلته هذه العائلة وربما سنسمع قصصا اكبر تأثيرا مع ان الافعال موجودة منذ القدم. كل بيوت العراق كالبيت الواحد وكل الصفات هي نفسها موجودة. ناهيك عن ان المرأة الكبيرة السن التي جاءت من مدينة عراقية بعيدة في المسافة ولكنها قريبة من القلب والروح، قد حلت كأحد افراد البيت وليس ضيفة. انها روح الفرد وهو يعيش على ارض ابتليت بالمصائب وتهديد الوجود، لكنها ظلت قوية بوجه العتاة وتحدي المصير ولأننا نعرف كيف ندافع عن خصالنا ومزايانا، فبيت كل عراقي هو بيت للجميع هكذا علمتنا الحياة وعلمتنا مضارب الجدود الممتدة على طول الزمن. فكل فرحة تعلو وجه مستجير هي فرحة القوب المقابلة له بالتأكيد. فلو كان المتضّيف كسير العيش وضعيف البنيان، فلا يظهر ذلك امام ضيفه ولو كلفه حياته. انه بناء الحياة الصعبة التي ضربتنا منذ امد بعيد ولكننا لم نتغير للظروف ولم نعلن اليأس لو اصابنا العدم. هي لغة التعايش والمحبة والتسامح الذي لو قرأناه في الكتب لما صدقناه. لأنه يعد ضربا من الخيال ان تجد بيتا مفتوحا لضيف بعيد دون تكلفة او ضجر او ملل، فيحل كريما ويكون احد افرادهم في كل شيء بل انه يأمر وهم ينفذون.