من له دراية بجغرافية العراق يعرف أن مدينة النجف الأشرف تقع على حافّة الصحراء الغربية التي ترتبط بصحراء نجد، لذلك مناخها عُرضة لعواصف رملية. في ليلة من الليالي ضربت المدينة واحدة من هذه العواصف التي كادت أن تعطل الحركة داخل المدينة. لكن أحد الفقهاء من أركان الحاضرة العلمية، أصرّ على زيارة مرقد الإمام أمير المؤمنين على ما هو عليه مألوفه في كلّ ليلة، فما كان من ولده الأكبر إلاّ أن قال له في محاولة لثنيه عن الذهاب: ليس هناك معنى للقُرب والبُعد بالنسبة إلى أمير المؤمين سلام الله عليه، لذا فزيارة الجامعة الكبيرة، التي تقرأها في الحرم، اقرأها هذه الليلة في البيت!
عندما انتهى الابن من كلامه ابتدره والده قائلاً: أرجوك أن لا تسلبني الروح العامية التي عندي.
أراد هذا العالم الجليل من ولده أن لا يفقده الروح الإيمانية العامية التي لديه، من خلال «التفلسف والتوجيه»، وإلا إذا كان الأمر كذلك فالوالد أقدر من ابنه على أن يجد الذريعة التي تملي عليه ترك هذه الممارسات، أو أن يتوارى خلف «فلسفة» : لا فرق بالنسبة للإمام أمير المؤمنين بين أن تزوره من قُرب أو من بُعد، وان الحسين لا يحتاج إلى بكاء، أو ان المرحلة لا تتحمل اللطم والمواكب والمآتم التقليدية وما إلى ذلك!
يسعى بعضٌ لتأسيس ممارسات شعائرية موازية لممارسات الجمهور الحسيني العريض، توحي بالتمايز والانفصال عنها، وأحياناً الترفع عليها، مرّة تحت عناوين التجديد والتطوير، وثانية باسم الوعي وهكذا.
ما نراه ان هذه ممارسة خاطئة في التجديد وبذر الوعي، لن يُكتب لها النجاح. ولو قُدّر لها النجاح لجاءت بنتائج ضارّة على القضية الحسينية عامة، وعلى دعاة التجديد أنفسهم أيضاً.
إذا ما كانت ثمّة ضرورة لتجديد بعض الوسائل والممارسات الشعائرية، أو تغذيتها بالهدفية أكثر من خلال مدّها ببذور وعي جديد، فإن الطريق إلى ذلك لا يتمثل بإيجاد ممارسات موازية توحي بالتمايز والانفصال عن القاعدة العريضة للجمهور الحسيني، كإيجاد مواكب للمثقفين مثلاً في مقابل مواكب «العوام»، أو مجالس عزاء خاصة للخريجين والمتعلمين مثلاً، في مقابل مجالس
الشيبة وكبار السنّ و«الأميين» وهكذا!
الطريق الصحيح في توجيه الممارسة الشعائرية ومدّها بما هو لازم لها، يتمثل بالاندماج بها أو بالنسج على منوالها، إذا كانت هناك ضرورة تملي ذلك. فإذا كانت ثمة حاجة لتأسيس موكب جديد لأن الموكب الموجود لا يُلبّي الغرض المطلوب من الشعائر، أو لا يلتزم مثلاً ببعض الضوابط الشرعية في أدائه، فينبغي أن يؤسّس الموكب الجديد على غرار الطريقة المألوفة التي اعتادها المجتمع، لئلا يشعر الجمهور الحسيني العريض بالانكماش، وأحياناً بالانفصال النفسي عن الموكب الجديد، ولا يساوره شيء من «الدونيّة» بأن الموكب الجديد مثلاً دون مستواه!
إن بعضهم مدفوعاً بعقد غريبة يصرّ على الجهر بهذا التمايز بالتنظير والعمل، لكي يوحي للجمهور العريض أنّه أعلى منه وعياً ومستوىً.
يتحلى الإمام سيّد الشهداء بمقام جمع الجموع، فالفئات كلها تشترك باسم الحسين وتدخل العنوان الحسيني من أبوابه الشعائرية المختلفة، والحكيم من يستطيع أن يوجّه الممارسة الشعائرية باتجاه سليم، دون أن يفقد هذه القاعدة الاجتماعية العريضة.