الانقطاع النظري والاتصال الإجرائي

ثقافة 2019/09/25
...

محمّد صابر عبيد
 
 تعدّ إشكالية المنهج في الدرس النقديّ الحديث واحدة من أخطر إشكاليات الثقافة المعاصرة وأشدّها التباساً وغموضاً وتعقيداً، وذلك لانغماس الدرس النقديّ العربيّ الحديث بالمناهج النقدية الحديثة التي غزت هذا الدرس غزواً واسعاً شرساً من دون سابق إنذار، إذ راح الكثير من النقاد العرب يغرفون من مَعين هذه المناهج بمختلف أشكالها ورؤياتها ونظرياتها وأدوات عملها وإجراءاتها، وكأنّها لُقية نادرة عثروا عليها على حين غرّة.

وأصبح الناقد العربيّ الذي لا يتحدث ولا يشتغل على المناهج النقدية الحديثة يوصم بالتخلف والرجعية المنهجية والتقليدية والبعد عن روح العصر، ولم يعد ثمة مناص من المغامرة للدخول في معترك هذه المناهج مهما كانت الخسائر. 
أضحت المناهج النقدية الحديثة على هذا النحو مطيّة لكلّ من هبّ ودبّ، وصرنا نقرأ كلاماً أشبه بالطلاسم والتعويذات لكتّاب يعتقدون أنّ الاشتغال في حقل المناهج النقدية الحديثة ليس أكثر من ((أن تهرف بما لا تعرف)) كما يقال، ولعلّ الطامة الكبرى أنّ الصحف والمجلات الأدبية وبعض دور النشر انطلت عليها هذه الحيلة (الجاهلة)، وبدأت تنشر الكثير من هذا الهرف بدعوى الحداثة وخوفاً من التجهيل الذي يُمارس ضدّ كلّ من يقف في وجه هذا السيل الكارثيّ من الكتابات التي لا يفهمها أصحابها أصلاً. وعلى الرغم من خطورة هذا الوضع إلا أننا لا نخشى على مستقبل الدرس النقديّ العربيّ من هذه الفوضى، إذ إنّ الكثير من هذه الأكاذيب النقدية قد أُهملت وكنستها الأقلام الجادة التي قادت حركة الدرس النقديّ العربيّ الحديث وحققت نجاحات باهرة، وكشفت عن زيف الادّعاء الفارغ وجهل هذه الكتابات المزيفة التي غابت الآن تقريباً مع نموّ الثقافة النقدية المنهجية وسطوع نجمها الحقيقيّ في سماء الثقافة العربية.
ثمة مشكلات منهجية كبيرة في هذا الإطار ينبغي مراجعتها والنظر المعمّق فيها وتحليلها من أجل فهم دقيق للرؤية المنهجية التي أرستها طلائع المناهج النقدية الحديثة، وطبيعة هذه المناهج النظرية وحساسية إجراءاتها في ميدان التطبيق على النصوص والظواهر، لأنّ عدم إلقاء الضوء الكافي عليها يبقي الكثير من طبقاتها طيّ الغموض والشكّ والالتباس.
المستوى النظريّ دفاع فلسفيّ منقطع عن الجذور التي لا تُعنى بالممارسة النقديّة تفصيليّاً، في حين المستوى الإجرائيّ هو اشتغال في حقل العمل والاضطرار إلى التخفيف من سلطة النظرية والتساهل مع قيودها نحو الاتصال، على النحو الذي يجعل العلاقة بين المستويين ليست على ما يُرام دائماً فإنتاج النظرية وإنتاج المنهج بحاجة إلى حاضنة ثقافية مثالية تشهد تحولات تفرض حلول النظرية والمنهج وتحفظ نموهما وتطورهما، وينبغي أن تكون الولادة المشتركة بينهما طبيعية داخل حاضنات فلسفية مؤسسة متصالحة مع النماذج والسياقات الثقافية الأخرى ومتفاهمة معها، ليكون النقاد مستلهمين للتنظير لكنهم يفرضون شخصياتهم وهوياتهم في الإجراء، وهو ما لا نجده لدى أغلب المنظّرين العرب حين يقدّمون أنفسهم بوصفهم مستقبلين وملخصّين وشارحين فحسب، وذلك لانعدام حواضن فلسفية عربية صحيحة متصالحة ومتفاهمة مع السياقات والنماذج بمعنى أنّ لديهم مشكلة فيهما معاً.
النقاد العرب متساوون مع النقاد الغربيين في استلهام التنظير وفهمه وفرض شخصياتهم وهوياتهم، غير أنّ ثمّة أهمية مركزيّة للنسق الثقافيّ في بناء المنهج وتأسيس النظرية، ففي حين كانت ثقافة السرد والمرجعية الفلسفية عند الغرب هي التي تقود إلى النظرية حتماً فإنّ ثقافة الشعر والمرجعية الأدبية البيانية عند العرب تقود حتماً إلى فضاء معياريّ يتمثّل بالبلاغة.
أنتج تأثر العرب فيما بعد بالفلسفة اليونانية ما اصطلح عليه (علم الكلام) الذي يقوم على الجدل والسجال، وظلّت أدوات البلاغة عاملة وفاعلة في الميدان ولم ينته هذا العلم إلى بناء منهج نقديّ خاصّ يتّجه نحو تأسيس نظرية صافية، فقد ظلّ التردد النقديّ العربيّ بين البلاغيّ والفلسفيّ عاملاً خطيراً من عوامل الحيلولة دون الوصول إلى فضاء ثقافي سويّ، يتيح إنتاج المعرفة ضمن مناخ عام من التفكير الليبراليّ الحرّ خارج المهيمنات والسلطات والمركزيات الضاغطة.
ثقافة السرد تمثّل انفتاح التعبير بوساطة الجملة الطويلة والاسترسال والاستطراد والثرثرة والتعبير المولّد والمنتج، ومن ثمّ الاستغراق في التفاصيل الذي يولّد الجدل والسجال والمناظرة بوصفها مجالاً أرحب لنمو الفكرة وتطورها وصيرورتها وبنائها، بما يؤدّي إلى اتساع مساحة التواصل مع مجتمع التلقي.
المنهج في نموذجه الغربيّ المستورد والمترجم لا يصمد في حقل الإجراء النقديّ العربيّ من غير فعاليّات تكييف واعية ومدركة وعارفة للمفاهيم والمصطلحات عربياً، يحوّلها عن مسارها النظريّ في الحاضنة الغربية ويفتحها على مجال جديد داخل حقل العمل النصيّ العربيّ، لأنّ هذا المنهج وُلِدَ في حواضن حضارية وفلسفية وسوسيوثقافية معقدة تستجيب لها وتتلاءم معها وتخدمها على نحو أصيل ودقيق، ونحن اقتطعنا هذه الثمرة الناضجة من سياقاتها وسعينا إلى إنباتها في أرض مختلفة في حواضنها وهنا حصلت المفارقة وولد الإشكال في النقدية العربية.
إنّ فعاليّات التكييف وإعادة إنتاج والتوجيه المناسب للحاضنة الجديدة ليست عملاً سهلاً وميسوراً في كلّ وقت ولأيٍّ كان، لأنّ أيّ خلل مهما كان بسيطاً ينشأ في مستوى التكييف وطبيعته وإجراءاته لا بدّ أن ينعكس سلبياً وبقوّة وتأثير بالغ على الممارسة النقدية الإجرائية في الميدان، لذا ينبغي أن يضطلع بهذا العمل من هم أهلٌ له على المستويات كافّة حتّى تكون النتائج بمستوى الطموح النقديّ وتسير في الاتجاهات الصحيحة، وهذه الفعاليات التي تتصدّى لتكييف النظريات والمفاهيم والمصطلحات الغربية عربياً هي أشبه بعملية جراحية دقيقة جداً، تحتاج إلى كادر نقدي عالي الخبرة والمؤهل والمعرفة ليس متوفراً دائماً نتيجة لثقل المهمة وخطورتها وتعددها على أكثر من صعيد، وعلى هذا النحو بوسعنا القول إنّ كثيراً من المترجمين لهذه النظريات والمفاهيم والمصطلحات لعبوا لعبتهم الفادحة - ربّما من غير قصد – في إعاقة عمل التكييف، وصنعوا نظريات ومفاهيم ومصطلحات أخرى لا علاقة لها بالأصل الغربيّ أصلاً.