جواد الأسدي: وجوب تقديم ملحمة الفداء الحسينية للعالم

الصفحة الاخيرة 2019/09/25
...


حاوره: حسن جوان
 

أحد أعمدة المسرح العراقيّ والعربيّ، ويُعدّ سفيراً للقضايا العراقية بأوجاعها وملاحمها وتواريخها المشتبكة. قدّم أعمالاً مسرحيّة من كتابته وإخراجه في مختلف البلدان العربيّة والأوربيّة، لكن تلك الأعمال بقيت ترتبط بحبلها السُرّيّ  المتّصل بهموم وطنٍ ظلّ يحمله بين جنبيه، وطنٌ اسمه العراق. جواد الأسدي، إسمٌ كبيرٌ في المسرح والثقافة العراقية القارئة للمشهد بعين رائية ومستشرفة لا واصفة ومعقّبة فحسب. قضى بين بغداد وبيروت ردحاً من الزمن، ومن ثم انتقل إلى  المغرب لما يقرب من عامين ليعود بعد جولة مليئة بالمنجزات المسرحية الكبيرة الى بغداد ، حيث ما تزال عروضه فتيّة وتحظى باهتمام بالغ، أينما حلّت غربته وترحاله، ونثاره الفني وهمّه الوطني والإنساني. التقينا به فكان هذا الحوار الخاص بـ “الصّباح” :

*ما الذي يبقي المسرح كمراهنة تقول ما لا يُفهم او يُرى إلى يومنا هذا، رغم توسّع وتنوع مديات القول المكتوب والمرئي؟
-لذة المكاشفة وندّية التقابل والمصادمة الجمالية بين مرجعيات الناس الموروثيه والمعرفية، وبين النصّ بغباره ورماده وأوجاعه ومسراته، هي الأرض المسرحية التي يعيش عليها ذلك التقابل الرؤيوي. هذه اللذة تنتعش وتزهر في نمو وتطور المعرفة البشرية، لكن العكس صحيح، حيث تنهار هذه المصادمة والندية الجمالية، في حالة أمّية المجتمع وانهيار كيمياء التهجي اللذوي الشعري والفلسفي، لذلك فإن المسرح بشروط الراهنية العربية بمقومات التدنّي الفكري تكبو وتضمحلّ، ليسود محلها شروط بدائية وجهل مستحكم، يساعد في ذلك أمية الإدارات بمغادرتها جماليات الحياة. 
 
*في مشروع  مسرحة عاشوراء، قلت ذات مرة بما معناه، أنك تحاول أن “ تعتق “ القصة من سجنها التقليدي، باتجاه بسطها نحو قيمها العليا التي أسطرتها أساساً. هل نجحت في تحرير فكرة عاشوراء، وفي أيّ النقاط كان ذلك النجاح كما تظن؟
-كنت ومازلت مشدوداً لشخصية الحسين “ع” خارج المسطرة الثيوقراطية  التي أبقت هذا الكيان التراجيدي الإصلاحي العالي الرّموز من الناحية الفدائية، أبقته في السجن المكانيّ، ووضعته أسيراً لإشارات وعلامات موروثية شعبية، دون الالتفات الى ضرورة الاشتغال على إعادة كتابة الواقع الدمويّ الحسينيّ، بلغة بصرية وإشارية وجسدية وموسيقية، ترتقي الى مصافّ الوقائع التاريخية لشخصيات كونية، عمل الفنانون على تهجّيها وتحديثها وإنتاجها مسرحياً وموسيقياً وسينمائياً بما يليق بفردانيتها الأسطورية. وأذكر “المهابهاراتا” نموذجاً عندما قام “بيتر بروك” بتجسيد ميثولوجيا هنديّة تحفرُ في صُلب شخصيات نزاعية، حيث قدمها على مقلع حجري في آفنيون بفرنسا، مما أعطاها ديناميّة خاصة عبر ذلك الاشتباك المسرحي البصري الموسيقي، لتتحوّل هذه الملحمة الى حديث الأوربيين أينما كانوا. إنّ حساسية الدول والمؤسسات الثقافية المدنية التنويرية أعاد للميثولوجيا الهندية المطمورة من دهور هيبتها وجمالها الآسر. بأسف شديد إنّ العمى التاريخي لمؤسساتنا الثقافية وبعض المؤسسات الدينية، أغفل الشرط الملحميّ البطوليّ لأكثر شخصيات الحياة درامية وعمقاً وثراءً وبطولة نادرة في الدفاع عن القيم الحياتية والإنسانية إنه “ الحسين “. إنّ أشدّ الوجع  ينتابني وأنا أرى  هذه الشخصية وقعت أسيرة مرّتين، مرّة في الماكنة الدموية لسلطة رأس المال الأمويّ، ومرّة أخرى تمّ بين كمّاشة الجهل الراهني، الذي حتى هذه اللحظه لم يلتقط قيمة وأهمية الاشتغال على إنّ الحسين شخصية كونية. منذ سنوات وأنا أحاول أن أدقّ ناقوس المؤسسات الدينية وغير الدينية بوجوب التقاط هذه القيمة الأسطورية في الفداء وتقديمها للعالم. عندما قدمت شخصية الحسين “ع “ مع ممثلين عراقيين ولبنانيين وسوريين على مسرح النبطيّة في جنوب لبنان، كانت الإشكالية التي انبثقت بعد العرض هي في أنّ المتلقين الذين أدمنوا الصورة النمطية في التعبير عن واقعة كربلاء قد خاب ظنّهم لإحساسهم الفطريّ وحاجاتهم للتعبير بما يتلاءم مع حساسياتهم وتربيتهم وتقاليد الفرجة عندهم، التي تغرف من العنف والدّم، بينما العرض أراد الانزياح عن هذا التقليد باتجاه تحديث السؤال الفلسفي للصراع وإعطاءه نبرة غير دموية. 
 
*” حمّام بغدادي “ عرضٌ لم ينضب بعد، ولم يزل فتيّاً كما يبدو، بدليل أنك تنوي عرضه في بعض العواصم العربية والأوربية. ما سرّ هذه الفتوة، وكيف اخترت الحمام مكاناً للانطلاق نحو تحليل الواقع في لحظات إشكاليّة مشتبكة؟
-سرّ “حمّام بغدادي” هو راهنيته وواقعيته لكونه يغرف من حياة الينبوع العراقي النقي الذي لوثته الحروب، والمراهنات على طوائف غادرت الحياة المدنية وأصيبت بعمى النزاعات القبلية، ووجدت في الثروة العراقية فرصتها التاريخية لإطلاق شخصيات على درجة عالية من التلوث وإعادة الواقع العراقي الى مستنقع قرصنة ولصوصية تم تسويقها لتتحول الى مفردة طبيعية في الحياة اليومية. الشخصيات في “حمّام بغدادي” تتنفس من هذا الحضيض الذي تم تكريسه. نصّ “حمام بغدادي” يتنفس من رئتين لأخوة يتقاسمون الجوع ووحشية الاحتلال، وماض بعيد ترك مرارة غير مسبوقة في حياة العائلة. الحمّام هو أرض التعرّي بالمعنيين الجسدي والإنساني، في  مناخ مشحون وموتور ونزاع على الرّغيف. الأخ الكبير يأكل الأخ الصغير من حيث مصادرته لقوته اليومي، وتحويله الى ظل لحياة تنساق وراء شبهات مالية تحت حُجّة الحاجة والشهية المفتوحة للثروة، بغض النظر عن مصادرها ومنابتها. أردتُ في “حمّام بغدادي” إزاحة قناع التقديس والمقدس في بناء الشخصية العراقية، وتقديمها كما هي الآن بدون تزويق وبلا مكياج. المسرح كما عند تشيخوف وبيكت وأبسن بقي ثريّاً وعميقاً لأنّه مسرح تعرية الحياة وتقديم الشخصيات الأكثر لبساً وتعقيداً، الشخصيات التي تتغذى من المواربة والازدواجية بتوغل نحو التقاط الجحيم الداخلي للنزاعات الشخصانية.
 
*هل ما زالت رائحة العراق بمكانيته ومحنته موضوعاً وفكرة، تساكن روح جواد الأسدي وتلهمه رغم تعدّد الأمكنة في حياته وأصدائها؟
-الأمكنة تصير أوطاناً حقيقية عندما تكون أرضاً خصبة، لتوليد يوتوبيا تبني  جماليات مكثفة للعيش الحرّ. إنّها جغرافيا الأرواح التي تفتش عن منصات لأنوار معرفية يتحول فيها النصّ المكاني والشخصاني الى ألفة نادرة وكتابة جديدة لليوميات. إنّ هذة الطبخة المكانية مع الشهية لابتكار فراديس إنسانية كانت موجودة يوماً في المضيّ من أكاديمية الفنون الجميلة الى مسرح بغداد، أو إلى كرادة مريم، حيث أنّ جمعاً غفيراً من الفنانين كانوا وهم يتهجّون ويتلمّسون ويشمّون حمية الكرنفالات في شارع الرشيد، هذه الطراوات وقصائد الألفة وابتكار سحر القصيدة أو اللون أو المسرح، كانت تكفي لنقول ها نحن نعيش في رحم الفردوس. العراق بالنسبة لي هو تراكم الحفر لبناء كيانات مكانية وألفة اشتباكات إنسانية. الجلوس مثلاً في مقهى حسن عجمي أو البرلمان أو مقهى رعد ومقهى أم كلثوم هو مقدّمات لالتهام نصوص لفوغنر ومارسيل بروست وأندرية جيد ودستويفسكي والحلاج والمعرّي والمتنبي، كل هذا يشكل الفردوس في مقتبل عمره. نعم أحنّ الى ذلك العراق.. لتلك الجنة، أمّا الآن فلا أريد أن أتحدّث عن هذا التصدّع الذي أصاب فراديسنا.. 
 
*” نساء في الحرب “ عرض قُدّم في بغداد، كما في أماكن أخرى، وهي تتناول ثيمة تتعلق بهجرة المرأة العربية والعراقية، وهذا يلامس أعمق رمزيّات البيت العربيّ: المرأة.. بعدما بلغ الخراب والتهديد الى الرّكن الأكثر ثباتاً في الأسرة. صرخة إنسانية لمن يهاجرن، ولمن لا يتمكنّ من مغادرة المأساة، لا سيما  أنّ هؤلاء الأخيرات يتكبدن الفقدان، ويحفرن في اليوم العراقي الصعب، اليس كذلك؟
*بدأت بكتابة نساء في الحرب منذ قررت أختي الهجرة عبر براغ تجرّ أولادها نحو الغابات المتاخمة لألمانيا، حالها كان وما يزال يشبه الحشود من المهاجرات قسراً في ظل فقدان الطمأنينة. جحيم عائلتي وتشردهم ومتاخمتهم للحتف هو الذي دفعني لخوض مغامرة الكتابة في موضوع الهجرة القسرية، كان ذلك هو الدافع الأوّل للكتابة، لكنّ الكتابة المعملية التجريبية كانت في روما، في إطار مهرجان دولي، حيث أنّ التمارين اليومية، وحساسية الممثلات الجزائريات المهاجرات قسراً، منحت النص والتمارين حرارة ونبضاً وموقداً نحترق يوميّاً فيه كلنا وبلذة غير مسبوقة. في بغداد مع صاحب نعمة وشذى سالم وسهى سالم وآسيا كمال، انفجرت التمارين بحرقة وعرق وانتماء، ممثلات مشهود لهنّ بتطرفهن في التعبير عن وجعهنّ المسرحي على نار حامية في صيف ساخط، على تماس مع دبابات الاحتلال التي كانت في أكثر من مرة جاهزة لاقتحامنا. صاحب نعمة قديس الضحك العالي المرّ، كان الرّحم الأكثر رحمة في تكوين العرض في بغداد. أزهر النص وكُتب بيوميات مسبوكة وقلق عميق للوصول الى كتابة ساخطة اختبرنا آثارها في عروض الجزائر وبولونيا. 
 
*كتبتَ نصوصاً، ومسرحت أخرى، وعُرفت حفّاراً ماهراً في طبقات  النصوص الأدبية. أيّ الأداءين يُبرز تجربة الإخراج أكثر لديك ، إن كان الأداء يستند الى نص مكتوب مسرحياً “ شكسبيري مثلاً “ أم النص الأدبي الممسرح؟
*أن يقوم المخرج ببناء عرضه المسرحي بالاعتماد على نص مكتوب شيء، لكن أن يؤسس مسرحيته على نصّه الشخصيّ شيء آخر، أنّهما أمران يفترقان عند حدود الولاء للأتربة والوحل ومعاينة مجتمع ما، بناء على خصوصيته، بمعنى أنّ الكاتب يكتب نصّه عندما يحسّ بضرورة التوغل في المناطق النائية لبناء الناس الذين عاش بينهم، ناهيك أن هذا النوع من الكتابة في جوهرها التحتاني هي نحت إخراجي حرّ دون قيد قصدي. 
 
*كيف يمكن تلخيص تجربة “ مسرح بابل “ في بيروت، هل حاولت عبرها نقل التجربة العراقية عربيّاً؟
 *مسرح بابل هو حلم شخصيّ أزهر في نفسي وتحوّل الى ضرورة لإحساسي المرّ باستحالة العودة لبلدي، ومع نمو حاجة لتشكيل ما يشبه بيت ألوذ به ومكان أتكئُ عليه في وحشة التخبّط بمدن في مجملها تنفر من وجودك كغريب، لذلك كان “بابل” وبإحساس سرّاني.. كان حال دخولي اليه يحيلني الى بلدي بفرضية ميثيولوجية وشهية لعودة لحضارة ملحمية تم هدم أركانها. لكن يبدو أن حساباتي كانت تقوم على حماقة وطفولة وهوس مسرحي غير مبني على ارتكازات راسخة كأنْ يكون لديّ ممولين، أو جهة مالية تساعدني في مشروعي المسرحي العربي والإنساني، وفي جوهره عراقي، لكن للأسف، وبتوجّع كبير، بعد تسع سنوات اكتشفت فداحة ما أقدمت عليه بعد أن تأكّدت استحالة وجود راعٍ لبناني لمسرح عراقيّ أو راعٍ عراقيّ لمخرج عراقيّ ..
 
*هل ما زال المسرح جنّتك؟
-أغادر جنّة المسرح الى جنة الجحيم المسرحي بسبب هذا التصدّع بين ثقافة الجمهور المسرحي وبين متطلبات الصعود نحو ثقافة نصّية وبصرية تتقاطع مع الذوق البدائي وبدائية التلقي.. المسرح يتحوّل الى جنّة التباسات.