جواد علي كسّار
حطّ رحاله في القاهرة مثقلاً بالشوق متطلعاً إلى المعرفة، فكان الأزهر الشريف محطته الأولى، تحديداً كلية الشريعة والقانون. واصل إقامته في مصر من خلال العمل في إذاعة القاهرة، فتأمّنت بذلك إقامته القانونية، وصار يحظى بمصدر للمعيشة بعد أن انقطع ما كان يصله من العراق، باعتقال والده هناك.
لم يُشبع القانون نهمه إلى العلم، بل ظلّ داخله يبحث عن شيء مجهول، فقاده التطلّع المعرفي للتحوّل إلى الفلسفة، قبل أن يرسو عقله عند «أخوان الصفاء وخلان الوفا»!
تواصلت التجاذبات حول هذا الاختيار لأخوان الصفا، وتوزّعت بين ممانعة بعض الأساتذة وحثّ البعض الآخر، تماماً كما لا يزال الاختلاف على أشدّه حيال هذه النحلة الفلسفية. لكنّ الغلبة كانت في الأخير لصالح «أخوان الصفاء» ولم يبقَ في ذاكرة صاحبنا من مواقف الممانعين إلا مقولة الشيخ عبد الحليم محمود: يا بني اقتلهم بالإهمال!
لكأنّ هذه الوصية بإهمالهم تحوّلت إلى مثير عكسي، فلم تقتصر رفقة فؤاد معصوم لأخوان الصفا على دراستهم في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، بل تحوّلت إلى صحبة فلسفية، بكلّ ما لهذه الصحبة من أبعاد في الثقافة والسياسة والاجتماع، وربما في المعتقد أيضاً.
حدّثني فؤاد معصوم عن ملابسات اختيار «أخوان الصفاء» بقوله: كان أستاذ الفلسفة الإسلامية واليونانية الدكتور محمد غلّاب، له دراسة عن أخوان الصفاء. عندما ذكرتُ له بأنني أريد أن أكتب عنهم شجعني كثيراً، وقال: إذا أنت سجّلت رسالة في الدكتوراه عن أخوان الصفاء، سأشرف على رسالتك. فعلاً عندما أنهيتُ الدراسة وحصلتُ على الماجستير، قدمتُ طلباً للموافقة على تسجيل رسالة الدكتوراه عن أخوان الصفاء، وأن يكون هو المشرف. لقد قدّمتُ الطلب مرفقاً بموافقة الدكتور محمد غلّاب، لكن دخلتُ في مشاكل مع الكلية والجامعة، إذ لم يكن لديهم الرغبة في تسجيل دكتوراه عن أخوان الصفاء في جامعة الأزهر.
في هذه الأثناء توفي الدكتور محمد غلّاب، وبذلك فقدتُ سنداً كبيراً لدعمي في تسجيل هذه الرسالة. لكن وجدتُ شخصية علمية أخرى لا تقلّ عنه مكانة، هو الدكتور سليمان دنيا المحقّق المعروف. كان الرجل أزهرياً خريج اكسفورد مثل الدكتور محمد غلّاب، هو أيضاً أزهري وخريج جامعة مومبليه، شجعني وأيدني حتى أنه ساعدني في مقابلة المرحوم الدكتور عبد الحليم محمود.
أضاف معصوم: عند مقابلتي للدكتور عبد الحليم محمود؛ وكان عميداً للكلية ناقشني، وقال: يا بُني أهمل الموضوع، لماذا أخوان الصفاء؟ لماذا لا تختار موضوعاً آخر؟
قلت: والله يا دكتور، إن لي رغبة في دراسة هؤلاء، وأنا أدرسهم وحسب، وإلى الآن لم أقرّر أنني أدافع عنهم أو أهاجمهم. فأنا أدخل لهذا الموضوع بطريقة حيادية، فربما أهاجمهم وربما أتبنى أفكارهم.
قال: لا، أنا رأيت بحثك الذي قدّمته، أنت مُعجب بهم، وأنا ناقشتك فيه.
قلت: صحيح، لكن هذا بحثٌ غير عميق، بل يُعدّ بحثاً سطحياً، لكن من خلال الدراسة المعمّقة ربما سيكون لي موقف آخر.
قال: لا يا بُني، أُقتل هؤلاء عن طريق الإهمال.
ختم لي د. معصوم هذه الواقعة، بقوله: دائماً وإلى الآن أفكر بهذه المقولة: «اقتل هؤلاء عن طريق الإهمال»، وسؤالي: هل يمكن وأد الفكر والقضاء عليه فعلاً، بالإهمال؟!