سنتان من الاتصالات السريَّة هي المدّة التي مهّدت للعلاقة الأميركية ـ الصينيَّة نهاية سبعينيات القرن المنصرم، وكانت الوساطة هي العاصمة البولندية وارشو، قبل أنْ تدخل على خطّ الوساطة أنقرة وباريس، وهما يحملان الرسائل السريَّة المتبادلة بين الطرفين، حتى تكلل ذلك كله بزيارة نيكسون الشهيرة إلى بكين في تموز 1971م.
وافقت طهران عام 1988م على وقف إطلاق النار في الحرب العراقية ـ الإيرانية، بيد أنَّ ذلك لم يحلحل العلاقات بين البلدين، قبل أنْ تنطلق الجهود السريَّة بوساطة من ياسر عرفات، الذي حمّل مساعده ياسر عبد ربّه، رسالة سرية من صدام حسين إلى القيادة الإيرانية، ثمّ توالى تبادل الرسائل بين الطرفين.
على خطّ آخر فشلت جهود الأمين العام ديكويلار في تطبيق البنود الثمانية للقرار 598، وأخفقت اللقاءات العلنيَّة المباشرة بين طارق عزيز وعلي أكبر ولايتي، وتحوّلت إلى مهاترات ومماحكات، إلى أنْ نشأت حلقة جنيف السرية بين برزان التكريتي وسايروس ناصري، وهي الحلقة التي حسمت معظم الملفات العراقية.
وفي ذاكرة جيلنا وساطة الجزائر بشخص الرئيس الراحل هواري بومدين (ت: 1978م) بين صدام ونظام الشاه، عام 1975م. ووساطة تورغوت أوزال معها اليابان وديكويلار لدى إيران، لإطلاق سراح الرهائن الأمريكان في لبنان، وكذلك وساطة المستشار الألماني السابق هلموت كول لإجراء لقاء مباشر بين الأمريكان والإيرانيين، وأخيراً وساطة سلطنة عمان بين طهران وأميركا على عهد أوباما، وهي الوساطة التي تكللت بدبلوماسية الاتصال الهاتفي بين الرئيس أوباما وروحاني وأكثر من خمسين لقاءً مباشراً بين الوزيرين كيري وظريف، على مدار أربعة أعوام انتهت بالاتفاق النووي.
والأسئلة الآن: هل سمعتم مسؤولاً في الجزائر قد تبجّح يوماً ما بهذه الوساطات أو أفشى أسرارها؟ وهل سمعتم كلمة واحدة فلتت من لسان الوزير يوسف بن علوي أو السلطان قابوس نفسه، يتباهى بواحدة من أعظم الوساطات الناجحة خلال عقود، وبين بلدين خصمين، وفي قضية من أعظم القضايا؟
أكثر من ذلك هل سمعتم يوماً أنَّ برزان فتح فمه عن حلقة جنيف، أو أنَّ سايروس كشف عن أسرارها أو تحدّث عنها بزهوّ؟
لقد رحل تورغورت اوزال (ت: 1993م) وبعده هلموت كول (ت: 2017م) دون أن ينطقا بكلمة واحدة عن خفايا وساطتهما، وكذلك يفعل أيّ وسيط حكيم. هناك فرقٌ كبيرٌ بين الوساطة كفعل أو مقدّمة لصناعة منعطف أو موقف سياسي، وبين البهلوانية والاستعراضية السياسية التي تكشف عن بدائيَّة سياسيَّة، وعدم ثقةٍ بالنفس، واستعراضيَّة مزعجة منفّرة!
أكتب هذه الكلمات واستحضرُ موقفاً خلال سنوات مضت، لوزير لم يسعه جلده، فراح يتقافز بخفّة في المطار، وهو يتحدّث عن وساطة تنهض بها بغداد بين بلدين في المنطقة، وكذلك فعل غيره، فانتهت الوساطة، لأنَّ ما يُفسده هؤلاء وأمثالهم بهذه التصرّفات البدائيَّة الخفيفة أكثر بكثير مما يُصلحونه.
الوساطة هي فعلٌ ينطوي على ثقة عالية بالنفس، وإيمانٍ بدور البلد، تتطلب ممارستها قدراً كبيراً من الرزانة والهدوء، بدلاً من القفزات في الهواء، والزهوّ الفارغ والتصريحات الإعلاميَّة الصاخبة، يصحّ ذلك في السياسة كما في الممارسات الاجتماعيَّة، وداخل الأسر، وصدق أمير المؤمنين: «صدر العاقل صندوق سرّ» و«من عقل صمت»!