، لأنّها باختصار مرتبطة بملكة الخيال الانساني، هذا بالضبط ما شعرتُ به وانا أشاهد أفلام وفعاليات أيام مهرجان الجونة السينمائي، الذي انطلقت فعالياته للفترة من 19 واستمرت لغاية 27 أيلول، بأفلام متنوعة واساليب مختلفة معظمها ضمن السياق السردي الكلاسيكي، منها: “الخائن”، و “الفارس والاميرة”، و “الحياة الخفية لاورديس جسماو”، والفيلم الوثائقي “جنازة رسمية”، الذي يرصد الايام الاربعة لمراسيم تشييع ستالين، وهو من اخراج الاوكراني سيرجي لوزنيتسا، الذي اعتمد على كم هائل من الافلام التي احتفظ بها الارشيف البصري السوفياتي يومذاك، الا ان تصوير الحشود، وهي تلقي النظرة الاخيرة على زعيمها الرهيب، وتنويع اللقطات الشاملة من خلال زوايا سيطرت على ايقاعات الحشود المعزية الهادرة، أعطى هذه الرتابة والاعادة جمالية ورمزية تنفتح على أكثر من قراءة وتأويل، وهذا كله بفضل مونتاج عبقري، لعب دورا حاسما في الكشف عن طبيعة الانظمة الشمولية وتدجينها للشعوب.
الفيلم فرصة لنا نحن الذين عشنا مراحل الشمولية، التي هي نفسها في كل مكان، فكنت ابتسم مرة وأحبط مرات اثناء مشاهدتي لأحداثه التي تجاوز زمنها الساعتين، فكم من مرة وجدت نفسي انظر الى الجماهير المغلوبة على امرها، وهي تسير بالآلاف كمن ندهتها نداهة في مظاهرات واستعراضات قطيعيّة، فتراهم يهتفون من حلوقهم، وهم يخفون رعبهم الداخلي بالحماسة، ولكن من يخفي ما تقوله العيون. ثمة لقطات قريبة لعيون بعض المشيّعين تتحوّل فجأة الى شلال من الدمع عندما ترصدهم الكاميرا، ربما نحن –العراقيين- الأكثر تمثّلا لهذه الحالة.
“الخائن”
وأبهر الفيلم الإيطالي “الخائن” لمخرجه ماركو بيللوكيو جمهور المهرجان بعمل محكم، رصد فيه الفصل الأكثر دموية في تاريخ المافيا الإيطالية، من خلال السيرة التراجيدية لتوماس بوشييتا (بير فرانشيسكو فافينو) الذي ينشق عن تنظيمات المافيا ويقرر فضح منظومتهم السرية الرهيبة، فقتلوا أسرته ومع ذلك أصر على فضحهم، فانهار بنيان تنظيماتهم السرية، ودفع القاضي الشجاع جوفياني فالكوني ثمن إدانتهم موتا شنيعا، الفيلم مثلما قلت مبهرٌ على جميع الأصعدة، ولا اعرف كيف سيطر كاتب السيناريو على احداث وقعت في الماضي القريب بكل هذا التشعّب من دون ان يقع في فخ الترهّل.
سينما واعدة
وحققت السينما السودانيّة حضورا قويا من خلال فيلمين؛ الأول “ستموت في العشرين” للمخرج مجد أبو العلا، الذي خطف أسد مهرجان فينيسيا 2019، والثاني الوثائقي “حديث الأشجار” للمخرج صهيب قسم الباري، وكلا الفيلمين يشاركان في مسابقتي الأفلام الروائية والوثائقية الطويلة، الأول استند الى نص مبتكر مستل من قصة كتبها الروائي السوداني حمور زيادة بعنوان “النوم عند قدمي الجبل” وقد تحدثت عنه، والثاني وثائقي تابع محاولة أربعة من صنّاع السينما السودانية الذين اسسوا قديما “نادي السينما السوداني”، وقرروا في خريف عمرهم – وهي مفارقة حقا- تحقيق حلم راودهم ولم ينجزوه، بفعل استهتار الأنظمة الفاسدة بالحياة المدنية، فعملوا على تأسيس مركز للفيلم السوداني، وعلى الرغم من عدم حصولهم على الموفقات المطلوبة، الا انهم شرعوا في ترميم احدى سينمات الخرطوم الصيفية، فليس في العمر بقية.
كتب السيناريو وصور الفيلم صهيب الباري، وقدم الرواد الأربعة سليمان إبراهيم، وإبراهيم شديد، والطيب المهدي، ومنار الحلو، أداءً عفويا مرحا صادقا خلب ألباب الجمهور، الذي صفق لهم بحرارة، وكان لحواراتهم وقفشاتهم واسترخائهم، دور حاسم في نجاح الفيلم، الذي صوره المخرج منذ العام 2015 في ذروة حكم البشير -وهي مغامرة- محاولة للتشبّث بمدنية صادرها طغاة فاسدون ومنافقون، وما يجعل الفيلم مرشحا قويا لجائزة الجونة للأفلام الوثائقية، هو توظيفه للكوميديا – وان كانت سوداء- لبث رسالته وقد وصلت فعلا.
“حقيقة” كاترين دينوف
وشهد اليوم ما قبل الأخير عرض “الحقيقة” للمخرج الياباني هيروكازو كوري أيدا صاحب “سراق المتاجر” الحائز على سعفة “كان” 71 الذهبية، الذي تقاسمت البطولة فيه الممثلة الفرنسية كاترين دينوف (76) بمشاركة مواطنتها جوليت بينوش، الفيلم ضاج بالمشاعر الانسانية، والسيناريو مفصل تماما على مقاس الشقراء دينوف، وعلى الرغم من بساطة احداثه وانتاجه المقتصد، وعلى الرغم من بساطة احداث الفيلم ومحدودية مكانه إلّا أن “أيدا” قدّم عملا مرحا وحميما عن علاقة ملتبسة بين ممثلة شهيرة في خريف عمرها، وابنتها التي غادرتها بعيدا الى اميركا وهي تعتقد انها بلا قلب، وحينما تصدر مذكراتها في باريس، تعود الابنة الى بيت امها فتتكاشفان، وتخبرها الام التي تؤدي دورا مشابها لما يحصل مع ابنتها في فيلم خيال علمي، وتثبت لابنتها انها كانت متفانية في محبتها، ولكن بطريقتها الخاصة، الفيلم أخيرا تحية لنجمة فرنسا والعالم كاترين دينوف، وبلا ادنى شك، تفوقت بينوش في ادائها امام استاذتها، فعلى العكس من دينوف التي كانت تتكلّم من حلقها، تألقت صاحبة “المريض الانكليزي” بتجسيد شخصية الابنة التي تعاني من تراكمات نفسية تمتد جذورها الى الطفولة.
واحتفى المهرجان بالذكرى المئوية للكاتب والروائي احسان عبد القدوس من خلال معرض لمقتنيات صاحب أكثر من 600 رواية وقصة، التي تحول 47 منها الى افلام، منها: “النظارة السوداء”، و “في بيتنا رجل”، و “عريس لأختي”، و “بئر الحرمان” وبعد جولة والاطلاع على وثائق وصور السيرة الحافلة لقدوس الذي ينتمي لجيل لا يأتي مثله ولا لطبيعة الظروف التي كوّنته، ومثلما يحصل لكل عراقي تساءلت: ترى لماذا لا يكون لدينا مثل هذا التقليد؟، ودائما الجواب يأتي حسرة وأسى على هوية في مهب الريح.
ندوات وجوائز
وضمن نشاطات منصّة الجونة نظمت ندوات متخصصة، أبرزها: “جماليات تصميم الصوت” التي قدمها مهندس الصوت رسول بوكاتي الحائز على جائزة الاوسكار، و “السينما الافريقية بين الحاضر والماضي والمستقبل”، و”الوضع الراهن لتوزيع الافلام” بإدارة المنتجة اللبنانية مريام ساسين، كما اعلنت في اليوم الثامن من المهرجان جوائز منصة الجونة التي يبلغ مقدارها 250 ألف دولار، لتنتهي ايام الجونة الساحرة ويفض تجمّع صنّاع السينما والنقّاد والصحفيين، على امل اللقاء في الدورة الرابعة، التي قال عنها مدير المهرجان انتشال التميمي: ستكون مميزة وعظيمة، وسنبدأ تحضيراتنا لها من الغد”.