رحم الله أمير الموصل بدر الدين محمود الذي أمر ببناء (الجامع النوري الكبير) قبل ما يقرب من 847 سنة وسط مدينة الموصل، وقد تميّز هذا المبنى الإسلامي بمنارته المعروفة بالحدباء التي تعدُّ من أعلى المنائر في العالم الاسلامي، وأعلى منارة في العراق، إذ يبلغ ارتفاعها (54) متراً، وهذ المنارة الإسطوانيّة المشيّدة بالآجر المزخرف والتي يتألّف بدنها من (7) حلقات او طبقات، كل واحدة منها منقوشة بزخرف مستقل بها، ومالا يحصى من التفاصيل الفنية التي يصعب حصرها في هذه المقالة المكرّسة لغرض آخر... أقول إنّ هذه المنارة بلغت من الشهرة التي حظيت بها على المستوى الهندسي والمعماري والفني الى الحدَّ الذي جعل الناس يطلقون على الموصل صفة (الحدباء) في حين لحق هذا اللقب بالمدينة لوقوعها (على نشز من الارض وإعوجاج نهر دجلة عند مروره بها)، والاطرف من ذلك كما يرى بعض المؤرخين أنّ المنارة او المئذنة اخذت اسمها من تحدب نهر دجلة عند دخوله الموصل حيث تشكل المياه قوساً عملاقاً..
قبل أن تنال لعنة العراقيين والمسلمين في العالم وعشاق الفن والهندسة المعمارية والآثار.. من كان وراء اغتيال الحدباء والتمثيل بجثتها، يقتضي أن نتوجه جميعاً بالرحمة المضاعفة الى (عبد المولى جرجيس) الملقب بالطنبورجي وهو رئيس بنائي الموصل في النصف الاول من القرن العشرين.. فماهي حكاية هذا الرجل الطيب؟!
الحدباء كأيّ مبنى قديم تحتاج الى الملاحظة والاصلاح والترميم، والحكاية تبدأ عندما دعت الضرورة الى اجراء ترميم في احدى طبقات البناء المرتفعة، وكان الامر يستدعي تكنولوجيا متطورة- ولكنها غير متوفرة – وهذا يعني ان العمل محفوف بمخاطر عظيمة على حياة العمال وفي مقدمتهم شيخ البنائين غير أنّ الرجل نزع المخاوف من قلبه وتدبّر الامر بطريقة لا يسمح المجال لتفاصيلها، وتحمّل مجازفة مقترنة بالموت وقام بترميم الجزء الذي تعرّض الى التلف واعاد اليه زخارفه وكتاباته الاسلاميّة... اما المشهد فيفيد بأنّ رجال المدينة ونساءها قد عطّروا اجواء المكان بالتصفيق والهلاهل والدعاء لهذا الرجل الذي نسيناهُ فيما نسينا من كبار مبدعينا، ولكن ذاكرة التاريخ حية، لا تغفل ولا تنسى ولا تموت!!
لم تنتهِ الحكاية ... متصرّف الموصل وقد انشرحت اساريره مثلما انشرحت صدور الاهالي لعودة رمز المدينة وزهرتها الجميلة، طلب من جرجيس ان يحضر الى ديوان المتصرفيّة لكي يتقاضى أجور عمله... ابتسم الرجل وقال للمتصرّف (تسلمتُ أجوري بالكامل من ربِّ العالمين)، ثمّ مضى الى حال سبيله... طبعا من حق المتصرّف أن يستغرب او تأخذه الدهشة، لكونه يجهل بأنّ رئيس البنائين كان لا يتقاضى ديناراً واحداً عن اعماله في صيانة وترميم المساجد والكنائس ودور العبادة، ويبقى الجزء الأجمل في الحكاية، وهو أنّ بطلها المرحوم عبد المولى جرجيس كان موصليَّ النشأة... مسيحيَّ الديانة.. عراقيَّ الانتماء.