علي حمود الحسن
لا تلقى أفلام المخرج الأميركي المستقل جيم جارموش، اهتماما من عموم جمهور السينما، باستثناء النخبة، لأسباب منها: إنها لا تخضع لمعايير السوق بمفهومية هوليوود؛ فلا انتاج واسعا، أو حبكة تقطع الانفاس، ولا اغراء ومواضيع مفصلة وفقا لرغبات جمهور استهلاكي، وهو ناقد لطبيعة المجتمع الرأسمالي وابطاله مأزومون ومغتربون، جارموش الذي غالبا ما يكتب أفلامه بنفسه، مقل في الانتاج، فعلى مدار أربعة عقود لم يقدم سوى 17 فيلما او أكثر بقليل، اخرها “ الميتون لا يموتون” الذي افتتحت به فعاليات مهرجان كان الاخير، واشهرها : “ “باترسون”(2016)، و” الرجل الميت”(1995)،” اغرب من الجنة “(1984)، و” ازهار مكسورة”(2005).
ينتمي “ الموتى لا يموتون “ الى أفلام الزومبي، وهو تحية الى المخرج جورج روميرو، الذي ابتكر هذا النوع من الأفلام، من خلال رباعيته الرائدة: “ ليلة الموتى الاحياء” (1968)، و” فجر الموتى”(1978)، و” يوم الموت “(1985)، و” أرض الموتى” (2005)، مع فارق بصمة جيم جارموش الفريدة؛ التي هي مزيج من الكوميديا والسريالية والفلسفة المغلفة بمسحة تشاؤمية وقلق على مصير كوكبنا الذي يقف دائما على كف عفريت نووي!
تدور احداث الفيلم في مدينة سنترفل الأميركية الخيالية، التي تبدو الحياة فيها رتيبة وهادئة وموحشة؛ فالبيوت متباعدة ومركز المدينة يكاد ان يكون خاليا من الحياة، عدا بضعة متاجر ومطعم صغير، تشهد المدينة احداثا غريبة، على خلفية تقارير تبثها القنوات المسموعة والمرئية عن انزياح الأرض عن مركزها، لم يخطر على بال أهالي المدينة ان تخلخل الوقت وتوقف الساعات واضطرابات الحيوانات الاليفة وهروب بعضها من المنازل، سببه انزياح الأرض عن مركزها، يهرع رئيس الشرطة ومساعده الى البحث عن سبب كل هذا من خلال جولة في سيارة الشرطة، تحوم الشكوك حول متشرد يتخذ من الغابة مأوى له (يجسده توم واطس)، لكنهما لا يجدان دليلا قاطعا، وما ان يحل الظلام ويكتمل القمر حتى يخرج الموتى من قبورهم وهم يطلبون ما احبوه وادمنوا عليه في حياتهم الأولى، بدءا من القهوة والشوكولاتة الى الموبايل واللابتوب، فهجموا على المتاجر والبيوت وقتلوا الأهالي وأكلوا لحمهم، تحاول الشرطة وما تبقى من الأهالي الدفاع عن انفسهم، لكن الموتى الاحياء يزدادون عددا وشراسة، وعلى الرغم من بسالة رئيس الشرطة ومساعديه في مواجهتهم، الا انهم قنطوا واستسلموا لصيحات الموتى وهم يتمايلون بتراخ، فقتلوهم ونهشوا لحومهم، ولم يفلت من المجزرة الا المتشرد الذي كان يراقب المشهد بمنظار، أهي القيامة ونهاية العالم؟ ربما نعم.. ان لم ننتبه، وهذه بالضبط رسالة جارموش في فيلمه الغرائبي “ الموتى لا يموتون”.
أحداث “ الموتى لا يموتون” لم تنتظم في بنية سردية متعارف عليها، وهذا ديدن معظم أفلام هذا المخرج المسكون بالشعر والمعرفة، فالشخصيات وحيدة مغتربة وان بدت لطيفة، فهم بلا ماض ولا نعرف عنهم الكثير، بدءا من صاحب المتجر وانتهاءً بالأطفال المحتجزين في مركز الاحداث، شخصيات الفيلم قلقة وبعضها ملتبسة، كما هي شخصية سيدة الساموري (تيلدا ) التي تمتهن تنظيم الجنائز والعناية بالجثث، او صاحب المزرعة العنصري، فضلا عن غرابة اطوار الشرطيين اللذين جسد شخصياتهما ممثلو جاموش الاثيرون بيل موراي و ادم درايفر وتيلدا سويتيون، إيقاع الفيلم بطيء لكنه ليس مملا، صاحب “ اغرب من الجنة” كما في أفلامه السابقة –شاهدت نصفها- لا يترك المشاهد يتماهى مع الاحداث، فهو غالبا ما يذكرنا بان ما نشاهده فيلم ليس الا.