هناك ظاهرة اجتماعية غريبة يلتقي عندها أفراد الجنس البشري جميعهم تقريباً، حيث يتحاشى الواحد منهم- حتى الفقراء- الحديث عن راتبه أو أجوره أو مدخوله اليومي أو الشهري أو ممتلكاته وإنْ كانت لا تساوي حبة خردل، لأنَّ بعضهم يرى في ذلك فتح باب الحسد عليه أو تشجيع اللصوص لسرقته أو... فيما يرى البعض الآخر أنَّ كشف (الذمة المالية) لا يخلو من محذورات وربما يقرب من المحرمات كما لو أنَّه يكشف عن عورته أو عن سرٍ خاصٍ جداً من أسراره!!
حين سمعت لأول مرة بعد (2003) بحكاية (كشف الذمة) للمسؤولين العراقيين، تلبسني شيء من الظن الآثم مع كثير من الأسئلة، إذْ لا يبدو معقولاً انَّ الدولة لا تثق بوزرائها ونوابها ومسؤوليها، لذك تبحث في ممتلكاتهم وجيوبهم سراً وعلناً لكي تعرف هل هي نظيفة أم مسها شيء من لوثة الضمير، وكنت في الوقت نفسه أقول إنَّ هذا الإجراء لدوافع وطنية وأخلاقية تريد الوصول بالموظف والمسؤول الى أعلى درجات النزاهة والحرص على مصالح الوطن، غير ان هذا لم يمنع علامات الاستفهام التي تؤرقني على غرار: لماذا يتأخر البعض عن كشف ذمته واحياناً لا يكشفها، وفي حال عدم الكشف هل هناك تحقيق او عقوبة لان امتناعه يعطي اشارة الى وجود ما يدعو الى الشك والريبة؟
مع مرور السنوات تحرر رأسي من هذه المتاعب التي ليس لي فيها ناقة ولا جمل، غير انني بالمقابل انشغلت بهوس جديد أشبه ما يكون بعقد (مقارنات)، ومن ذلك على سبيل المثال ان الذمة المالية السنوية لرئيس حماية أي مسؤول في الدولة هي ضعف الذمة المالية لرئيس المهندسين في أية وزارة.. وبالمناسبة فالذمم أنواعٌ، بعضها طريف: من ذلك ما ورد على ذمة الوكالات قبل عدة سنوات انَّ الذمة المالية السنوية للكلبة الأميركيَّة (ترابل) تبلغ (12 مليون دولار)-أرجو الانتباه الى مفردة مليون- بينما تبلغ ذمتي السنوية (7 آلاف دولار)- أرجو الانتباه الى مفردة آلاف، ومن المخجل على صحفي مثلي أنْ يحسد الكلبة ابنة الكلب مع انها لا تُحسن كما أحسنُ قراءة الفنجان وكتابة المقالات!!
لعلَّ أطرف الذمم على المستوى الشخصي هي التي صادفتني عام 1965 حيث تم تعييني معلماً في قرية نائية، والذي حصل في ذلك العام انَّ نقابة المعلمين عمدت الى تأسيس نادٍ أو فريق لكرة القدم، وقد وصلتني دعوة كريمة للمشاركة ضمن تشكيلة الفريق، ولأنَّني التحقتُ متأخراً، لم أحصل من (الكابتن) – اسمه عباس على ما أذكر.. شاب رائع ومهذب، وفي الوقت نفسه إداري جاد جداً- على حصتي من التجهيزات الرياضية باستثناء (حذاء رياضي مستعمل)، والحقيقة التي يجب الاعتراف بها، انني لم أحضر التدريبات سوى مرتين أو ثلاث لانشغالي يومها بنظم قصائد غزليَّة من الشعر العمودي (اكتشفتُ لاحقاً انه غير موزون)، وارسالها الى ابنة الجيران التي تبادلني الحب، وكانت على ما اظن مغرمة بالقصائد اكثر من غرامها بي.. وهكذا انقطعت نهائياً عن الفريق خاصة بعد قبولي في الجامعة المستنصرية.. وقد فوجئتُ بوصول كتاب رسمي موقع من الكابتن عباس الى المدرسة جاء فيه: الى السيد حسن العاني (في ذمتكم حذاء) يرجى إعادته فوراً.. مع التقدير!! وأنا أستذكر هذا الموقف بعد أكثر من خمسين سنة قلت لنفسي: الحمد لله.. حذاء في ذمتي ولا غير شيء!!