زنزانة النسيان

الصفحة الاخيرة 2019/10/27
...

حسن العاني 
 
قبل (44) سنة أوفدتني اذاعة صوت الجماهير (كنتُ يومها منسّباً من التعليم الى الاعلام) الى عدد من دول الخليج العربي، وكان يرافقني الصديق المذيع موفق السامرائي، وذلك لاجراء لقاءات اذاعية مع فناني ومثقفي الخليج، وحصل ذات مرة ونحن على مأدبة عشاء  تكريمية أقامها فنانو البحرين، وحضرها بعض العراقيين الذي صادف وجودهم هناك في اثناء الزيارة، أن تمّ التطرق الى الاغاني العراقية التي حظيت بحب استثنائي لافت للنظر من الاشقاء، مثلما حظي الفنان ناظم الغزالي بخصوصية عالية من الثناء والاعجاب منقطع النظير... وفي تلك الجلسة واجوائها الفنية سمعت لأول مرة مصطلح (سفير الاغنية العراقية) التي اطلقها ناقد فني بحريني على الغزالي، وقد اضاف الرجل مفردة (الساحر) على المصطلح بما اكسبه منزلة غنائية رفيعة، وهو الأمر الذي جعلني أمتلئ غبطة وسعادة . اذْ ليس أمراً هيّناً في معايير الشعور الوطني وانت في (الغربة) أن  يبدي (الآخر) اعجابه العظيم بتاريخ بلدك وابداعه ومبدعيه، غير ان احد العراقيين المدعوين اكراماً لنا، اثار استغراب البحارنة واطفأ جذوة فرحي، وهو يشن هجوماً على الغزالي وينتقص من قدراته الصوتية والجمالية، وانه على حد تعبيره، شلّ الله لسانه وتعابيره (لا يساوي شيئاً، ولا يستحق لقب السفير، مقارنة بالقبانجي ويوسف عمر)!!
بغض النظر عن الحوار الساخن بيني وبينه الذي افسد حلاوة المائدة   الظريفة، فقد تولدت عندي قناعة مبكرة منذ تلك اللحظة : اننا شعب نحس كثيراً ونجيد مهنة الاساءة او التقليل من شأن مبدعينا وانقاص الابداع العراقي، ولا نتوانى عن اغتيال رموزنا الثقافية والوطنية والابداعية بشتى الوسائل، وفي مقدمتها الإهمال ونكران منجزهم الكبير، حتى ان الواحد يرحل وأسرته لا تمتلك داراً سكنية، ويقتلني الغمُّ اذا قلتُ: انها لا تمتلك ثمن كفن يستر جسده...
لعله أمر محزن ان تترسخ هذه القناعة في داخلي كلما مرت الايام، وكلما تابعت طريقة احتفاء اشقائنا المصريين برموزهم ومبدعيهم، وان كان الواحد منهم في بداية الطريق واول المشوار، بل وحتى لو كان منجزه لا يستحق الذكر.. اما الكبار من تلك الاسماء فهم اقرب ما يكونون الى (المقدسات)، من احمد عرابي الى طه حسين ومن سعد زغلول الى ام كلثوم، ومن احمد شوقي الى نجيب محفوظ، ومن توفيق الحكيم الى فاتن حمامة ومن عبد الوهاب وفريد وعبد الحليم الى سعاد محمد وليلى مراد وغيرهم المئات، بل عشرات المئات ممن تمّ تسويقهم محلياً وعربياً على أتم وجه وافضل صورة..
كان عزيز علي، رمز الاغنية السياسية الوطنية في العراق، فلم يتورع بعضنا عن النيل منه، ومازلنا مترددين في وطنية عبد المحسن السعدون، ونال الجواهري والصائغ والسياب والبياتي وسعدي يوسف وسامي مهدي ونازك الملائكة وبلند الحيدري وحسب الشيخ جعفر الشيء الكثير من الشتائم مع انهم قامات عالية محلياً وعربياً وأممياً، ومازال موقفنا غائماً من عبد الكريم قاسم، اما قادة ثورة العشرين فدخلوا زنزانة النسيان كما دخلها الاثري وعبد الجبار عبد الله وصديقة الملاية وسليمة مراد ونزيهة الدليمي وحقي الشبلي واحمد سوسة وطه باقر و... وبوابات الزنزانة مفتوحة على مصاريعها لاستقبال المزيد من الاموات والاحياء لأننا بلد يتمتع بذاكرة معطوبة، وحكوماته المتعاقبة منذ مئة سنة تتحلى بنكران جميل لا تحسد عليه...