علي حمود الحسن
تمتعت كثيرا بمشاهدة فيلم “ المغسلة”(2019) للمخرج الأميركي ستيفن سودربيرغ، الذي يحكي قصة السقوط المدوي لواحدة من أكبر شركات غسيل الأموال في العالم، اذ سرب شخص مجهول 11.5 مليون وثيقة تابعة لشركة المحاماة البنمية “ موساك فونسيكا “، فتلاقفتها الصحافة الاستقصائية وعرفت يومذاك بـ “وثائق بنما”، التي أطاحت بالعشرات من رموز السياسة ورجال اعمال متنفذين ورياضيين، بينهم رؤساء دول وممالك.
ينتمي “المغسلة” الى أفلام الكوميديا السوداء، وهو مقتبس من كتاب “عالم السرية” للصحافي الأميركي جيك برنشتاين، كتب السيناريو له سكوت بيرنر ومثل فيه غاري أولدمان ( يورغن موساك)، وانطونيو باندرياس(رامون فونسيكا)، وميريل ستريب التي جسدت شخصيتي الارملة التي تقتفي اثر الشركات المعولمة، فضلا عن شخصية سكرتيرة المحامي موساك الغريبة (غيرت ستريب من شكلها تماما بحيث يصعب التعرف عليها)، وعلى الرغم من ان احداث الفيلم حقيقية ولا تبعد كثيرا عن حاضرنا- تم تسريب الوثائق في العام2016، الا أن المخرج وضعها في سياق بصري مرح ومشوق، حيث قسم سودربيرغ زمنه الفيلمي الى مقدمة واجزاء، قد تبدو متباعدة في المكان، لكنها تتشارك بالموضوع، هذه الأجزاء تنتظم في سلسلة سردية من خلال يوميات سيدة متقاعدة تفقد زوجها في رحلة نهرية ترفيهية للمتقاعدين، اذ ينقلب القارب ويغرق 21 راكبا، فتطالب بمبلغ التأمين، لكن المحامي يخبرها ان بوليصة التامين انتقلت ملكيتها الى شركة أخرى ولا حق لك في استرجاعها، فتقتفي اثر الشركة الام التي لها اكثر من 45 فرعا في مختلف دول العالم، وبعد بحث مضني لم تحصل على شيء، لكنها تكشف الشبكة وترى قصصا رهيبة عن شخصيات تدير صفقات بمليارات الدولارات من دون ان يكون لهم اسم او عنوان، وهذه بالضبط مهمة المحاميان العبقريان: فونسيكا المهاجر الألماني الى بنما، وفونسيكا الحمامي النزيه الذي يحلم بإنقاذ المساكين، فيكتشف ان ذلك ضرب من الخيال ، فيعمل على توفير خدماته لا صحاب رؤوس الأموال والفاسدين الهاربين من بلدانهم ونظامها الضريبي الى بلدان تتوزع على جزر ومحيطات كوكبنا في اسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية.
التجأ مخرج “ تشي جيفارا” الى الهزل والتعليق ووسائل توضيحية للسيطرة على ضخامة الاحداث والأرقام، معتمدا على الحضور الطاغي لنجوم كباراختارهم بعناية على شاكلة: انطوني باندرياس وغاري اولدمان وميريل ستريب وجيمس كرومويل، وديفيد شويمر واخرين ففي المفتتح يقودنا الشريكان من خلال رحلة عبر التاريخ بعنوان “ الحياة السرية للمال” لاقتفاء إثر مصطلح “الائتمان” و”التبادلات النقدية”، فهما يسردان قصصا ويتدخلان في الروي من دون ارباك السياق، فمثلا تراهما يقدمان ورقة من فئة 100 دولار لرجال ما قبل التاريخ فيأكلوها بدلا من استخدامها في اشعال النار، بعدها نتابع قصة الين وغرق زوجها وبحثها عن شركة راشل فتشهد عمليات نصب واحتيال وسقوط رجال اعمال ودمار حياتهم، لكنها قطعا لن تجد دليلا واحدا على ادانتها، ثمة حكاية اليمة عن ملياردير اسود يحيا حياة باذخة يتورط في علاقة حميمة مع صديقة بنته التي تكشفهما فيطلب منها السكوت مقابل 20 مليون دولار وعندما تذهب الى مقر الشركة تكتشف ان اسم الشركة لا تساوي شيئا، قصة أخرى عن عائلة صينية متنفذه تقتل مدير احدى الشركات الوهمية، التي تتعامل معها وتنتهي نهاية تراجيدية، تكتشف ايلين ان هؤلاء الرجال “يتخفون وراء الورق”، فهذه الشركات التي تحتكم على ملايين الدولارات، ليست الا وهما ؛ فلا موظفين ولا كراسي ولا حتى مكانا، وتتساءل سكرتيرة المحامي فونسيك(ميريل ستريب)، بعد ان تنتهي اللعبة ويدخل الشريكان السجن، من هو المسؤول عن كل هذه الالام ومن هم ضحايا هذه الشركات ؟ فتجيب انها اميركا، نراها في مشهد النهاية ترتدي شالا وترفع يدها وتنتصب شامخة كنصب الحرية، الفيلم ادانة لاستهتار راس المال بأحلام الناس.