أمراض الفقراء

الصفحة الاخيرة 2019/11/03
...

حسن العاني 
 
لعلني تعرفت على ابن محلتنا كاظم عبد القادر الجبوري قبل تسع عشرة سنة تقريباً، وبغض النظر عما يتحلى به هذا الرجل من أخلاق كريمة، فمن الصعب القول انه انسان فقير الحال، او انه يعيش تحت خط الفقر، لكونه حتى دون خط الفقر، يبلغ الجبوري خمساً واربعين سنة من العمر، ويمتلك عربة يدوية صغيرة تعينه على عمله حمالاً في السوق، ينقل بضاعة هذه السيدة المتعبة او تلك المرأة الحامل او العجوز، او بضاعة المرأة المدللة بعربته مقابل اجور متواضعة، ويكسب في المعدل ما بين عشرين او خمسة وعشرين ألف دينار في اليوم، وهو بالتأكيد مبلغ جيد له ولأمثاله من الناس، لأنه يكفي لدفع ايجار الشقة الصغيرة، ومصاريف الأسرة المؤلفة من زوجة وثلاث بنات اكبرهن في المرحلة المتوسطة، ولكن منذ العام (2010) صعوداً، لم يعد الأمر كذلك، بعد ان توجه مئات الخريجين الى السوق حتى امتلأت بهم، وصار مردود الجبوري لا يزيد على خمسة آلاف دينار في احسن الاحوال.
أهل المحلة الغيارى – وهذا طبع العراقيين- لم يبخلوا على الرجل وأسرته بما تجود به أيديهم، من زكاة الى فطرة عيد الى مساعدة بهذه الطريقة او تلك لا تمسُّ كرامته ولا تخدش رجولته، ولعلها من محاسن المصادفات، ان تكون زوجته ليلى الشمري (رحمها الله) سيدة مدبرة تعرف كيف تتصرف في المأكل والملبس ومتطلبات البيت، فالأسرة تفطر على الخبز والشاي او منقوع اللوبياء او الباقلاء، اما الغداء والعشاء فعلى ما يتوفر من حساء الرز او العدس، ومقليات الباذنجان والطماطم والبطاطس، والمثرودة (خليط من الخبز اليابس والبصل والطماطم) وهذه الأكلة  تسمى (محروق اصبعه) في بعض مدن العراق، وبعضهم يسميها (مرقة هواء) وكان للأسرة تقليد ظريف في طعامها تسميها الأسرة (أكلة الاسبوع) لانها (فاخرة)، وتتألف من الرز ومرق الطماطم (بدون لحم طبعاً)... ومن دون هذا النظام الغذائي الصارم ما كان بمقدور (العائلة) ان تواصل حياتها، أما وصف اكلة الاسبوع بأنها (فاخرة)، فلأن الاسرة تطبخ الرز مرة واحدة في الاسبوع.
ثمة ما يستحق الذكر هنا، وهو ان هذه السيدة (الشاطرة) اتفقت – بموافقة زوجها- مع بعض اصحاب المحال التجارية على تزويدهم ببعض (المعجنات والاطعمة) المصنعة منزلياً مقابل مبلغ يسير من هنا وهناك كان عوناً على مصاريف البيت، غير ان الرجل تعرض فجأة الى وعكة صحية ألزمته الفراش، وهذا يعني انه لم يعد قادراً على الذهاب الى السوق ومزاولة عمله، والمشكلة ان طبيعة عمله تعتمد على الصحة والعافية والقوة البدنية، وهكذا مضت ثلاثة ايام، بل مضى اسبوع كامل وهو على حاله يشكو من آلام مبرحة في المعدة، وزوجته ترافقه من مركز صحي الى مستشفى، وعلاجات وأدوية متشابهة في اغلب الاحيان من دون جدوى... وبعد اسبوعين ظهرت عليه أعراض جديدة، حمى وتقيؤ، وكان الجيران واهل المحلة لا ينفكون عن زيارته ويضعون تحت وسادته اكبر مبلغ يقدرون على تقديمه!
بادرتُ أنا وأحد الجيران واصطحبناه الى عيادة طبيب اختصاص (بالطبع تولينا أجور الكشفية والدواء) وبعد فحص دقيق وعشرات الاسئلة... سكت الطبيب قليلاً ثم سأله [أخي هل تذكر آخر وجبة تناولتها قبل اصابتك بالمرض؟] سكت قليلاً في محاولة للاستذكار ثم ردّ عليه بأنه كان مدعواً الى عرس، ولأول مرة في حياته أكل (القوزي على التمن)، ابتسم الطبيب وطمأنه ان الحالة بسيطة جداً [لقد دخلت معدتك أطعمة غريبة عليها] واوصاه أن يلتزم بالعلاج، ولم تمض اكثر من 24 ساعة حتى تماثل للشفاء!!