الخرق الدستوري الفاضح للبرلمان في تأليف لجنة تعديل الدستور
العراق
2019/11/03
+A
-A
د.حسن الياسري
منذ سنواتٍ عديدةٍ وأنا ألحظ بمرارةٍ غياب الوعي الدستوري ، بل والقانوني أيضاً ،في الأوساط العامة بمستوياتها المختلفة. ويكاد الألم يعتصر الجميع من هذا الواقع الفكري المرير . وللتنويه فإنني استثني هنا الأساتذة الألمعيّين المتخصصين في حقل القانون - من ذوي الفكر حصراً - ، الذين لا يكادون يمثلون سوى القلة القليلة جداً . بيد أنَّ المشكلة أنَّ هؤلاء القلة ليس لهم دورٌ في تنضيج الرأي العام أو تصحيح مساراته ، وإنّ الذي ينبري من سنخهم لبيان القضايا الدستورية عادةً ما يخوض فيخطئ !! ولعلي لا أجانب الصواب إذا قلتُ إنّ الصورة قاتمةٌ – من هذه الناحية - ، ولا تُبشِّر بخيرٍ البتة ؛ فإذا تحدثتَ عن المتصدّين في وسائل الإعلام من الذين يتحدثون في الدستور تحت عناوين ومسمياتٍ متعددة ( خبير ، محلل ..الخ ) أُصبتَ بالإحباط من كثرة أغلاطهم وخوضهم في ما لا يعلمون . وعلى الرغم من أغلاطهم الواضحة هذه فإنّ الإعلام ليس بمقدوره كشف ذلك ، الأمر الذي يتسبّب في تضليل الرأي العام !! وإذا انتقلت الى السياسيين فالأمر ليس بأخف وطأةً حينما تراهم يتحدثون عن القضايا الدستورية !!
أما البرلمان ، وما أدراك ما البرلمان ، فالمشكلة هنا تعدُّ رزيةً بكل معنى الكلمة ، ولا سيما أنّ الوعي الدستوري والقانوني البرلماني هو في تضاؤلٍ وانحدارٍ مستمرٍ دورةً بعد أخرى ؛ إذ يرى أحدكم رأي العين أنّ الدورة البرلمانية الأولى كانت أهون من الثانية ، والثانية كانت أهون من الثالثة .. وهكذا الى أن وصلنا الى مرحلةٍ أقل ما توصف بــ ( المأساة ) من ناحية الوعي الدستوري والقانوني !! والملاحظ أنّ معظم ما يتحدث به البرلمان عن القضايا الدستورية قد يكون بلا هدىً أو كتابٍ منير !! مع التنويه بأنّ المقصود هنا هو المنظومة البرلمانية برمتها في بلدنا ، لا برلمان معين .
وكي لا أطيل ولا أدخل في التفاصيل الكثيرة التي أوقع البرلمان فيها نفسه بالخرق الدستوري ، سأتحدث عن آخر هذه الخروقات والمخالفات وأشدّها فضاحةً وفضاضةً ؛ إذ قام البرلمان مؤخراً ، تحت ضغط الشارع ، بالتصويت على تأليف لجنةٍ لتعديل الدستور استناداً لأحكام المادة (142) من الدستور . وبغية إحاطة القارئ فسأشير بإيجازٍ الى أنّ هذه المادة تدعو لتأليف لجنةٍ لتعديل الدستور خلال أربعة أشهرٍ ، ولكي يسري التعديل لا بد من موافقة البرلمان بالأغلبية المطلقة ، ثم إقرار الشعب عبر الاستفتاء العام ، بشرط عدم اعتراض ثلثي المصوتين في ثلاث محافظاتٍ أو أكثر . والعجب أشد العجب أن يقوم البرلمان بالتصويت على هذا القرار رغم أنه يمثل خرقاً دستورياً فاضحاً ، ومخالفةً واضحةً ؛ وذلك للأسباب الآتية ، بإيجازٍ :
1 - إنّ المادة (142) من الدستور هي مادةٌ انتقاليةٌ مؤقتةٌ وردت في الأحكام الانتقالية ، وقد وضِعت في اللحظات الأخيرة من عمر كتابة وصياغة الدستور من قبل ما سُمي بـ ( المطبخ السياسي ) ، بعد اكتمال نصوصه كافةً ؛ بغية تطمين المكوِّن السني - بحسب الاصطلاح - ، الذي قال مُمثِّلوه في حينه إنّ هذا المكوِّن لم يُسهم بكل تفاصيل كتابة الدستور ، وإنه إذا عُرض الدستور بهذه الكيفية فسينال الموافقة وسينفذ ما دام الشيعة والأكراد سيصوتون له ؛ من هنا جاءت هذه المادة المؤقتة لتمنح المكوِّن السني فرصة رفض الدستور في حالة عدم الموافقة على نصوصه .
2 - لقد كان المقصود من المادة تطبيقها في أول دورةٍ برلمانيةٍ تعقب إقرار الدستور في عام 2005 ، وليس مادةً دائمةً يمكن الركون اليها في أي وقتٍ ، أو في أية دورةٍ برلمانيةٍ ؛ ولهذا ورد النص – المادة 142 - كالآتي :
( يشكل مجلس النواب في بداية عمله لجنةً ...). ولم يكن البرلمان في حينه تحت مسمى ( مجلس النواب ) ، بل كان تحت مسمى ( الجمعية الوطنية العراقية الانتقالية ) ؛ ولذا ورد النص على أنّ المجلس يقوم بتأليف هذه اللجنة عند استهلاله العمل في أول دورةٍ له.وبالفعل تم تأليف لجنةٍ لتعديل الدستور استناداً لأحكام هذه المادة في الدورة البرلمانية الأولى ، وقد كانت هذه اللجنة تتألف من (27) عضواً ، وأُضيف اليها مراقبان اثنان من الكلدان والصابئة ، وبذلك اصبح عددها (29) عضوا ممثلةً للمكونات الرئيسة في المجتمع العراقي .ولقد عقدت اللجنة اول اجتماع لها بتاريخ 15 تشرين الثاني 2006 ، واختارت همام باقر حمودي رئيسا لها وفؤاد معصوم واياد السامرائي نائبين له. واستمرت اللجنة في عملها لغاية عام 2009 .وقد خالفت اللجنة التوقيت الزمني الوارد في المادة المذكورة آنفاً القاضي بوجوب إنهاء عملها في غضون أربعة أشهر ؛ كونها استمرت لسنين ناهزت الثلاث ، بعد أنْ تم تمديد عملها لأكثر من مرةٍ ؛ الأمر الذي أدخل البلد في حينه في سجالٍ دستوريٍ كان يدور بين رأيين ، الأول يقول بوجوب حلِّها ؛ لعدم توصلها الى اتفاقٍ نهائي خلال المدة المذكورة ، والآخر يقول بوجوب التمديد لتحقيق حكمة النص .واستمر السجال حتى نشب الخلاف بين المكونات الرئيسة على مواد التعديل ، ولا سيما الجانب الكردي ؛ فتم التصويت على إنهاء عمل اللجنة ؛ فغدا ذلك الإنهاء بمثابة الحكم الدستوري بموت المادة (142) ، موتاً لا
حياة بعده !!
3 - إنّ موت المادة (142) وانتهاءها لا يعني عدم امكانية تعديل الدستور ، بل يعني ضرورة العودة الى أحكام المادة (126) من الدستور ، وهي المادة المتعلقة بتعديل الدستور في أي وقتٍ وأوانٍ ، كما تنص على ذلك دساتير الدول المختلفة ، التي عادةً ما تضع في الأحكام الختامية ( وليس الانتقالية ) بعض النصوص التي ترسم آلية التعديل. وهو الأمر ذاته الذي تضمنته المادة (126) التي وردت ضمن الأحكام الختامية . بمعنى أنّ أي تعديلٍ للدستور بعد انتهاء عمل اللجنة المشار اليها يتعيَّن أنْ يكون على وفق أحكام المادة (126) قولا واحداً لا يخالفه إلاّ من يجهل أبجديات الدستور .
4 - إنّ الإخوة الذين كتبوا الدستور مازالوا موجودين بينكم ، وكذا الإخوة الذين كانوا يعملون في لجنة تعديل الدستور المشار اليها آنفاً . كما أنّ رئيس ونائبي لجنة صياغة الدستور وكذا رئيس ونائبي لجنة تعديل الدستور ما زالوا بين ظهرانيكم ، وهم يعلمون تماماً هذه الحقيقة – إنّ المادة 142 هي مادةٌ مؤقتةٌ انتقاليةٌ قد انتهت -. ولم تكن هذه الحقيقة يوماً محلاً للنقاش أو الخلاف . وعلى البرلمان سؤالهم قبل أنْ يورّط البلد بهذه المصائب التي لا تنتهي . وبدوري أدعوهم لتحمل مسؤوليتهم القانونية في بيان هذه الحقيقة ، وعدم الوقوع في خرقٍ دستوريٍ فاضحٍ ، ولا سيما رئيس اللجنة السابق –حمودي - ، ونائبه –معصوم ، وبخاصةٍ أنّ الأخير كان رئيساً للجمهورية ومطلعاً على الدستور عن كثبٍ .
5 - ولو تنزلنا عن كل ما خلا بيانه ، فإنّ بالإمكان أن نسأل السؤال الآتي :
كيف يمكن لأي دستورٍ في العالم أنْ يضع نصاً تفصيلياً متعلقاً بتعديله ، ثم يأتي في الأحكام الانتقالية ليضع نصاً آخر للتعديل يتعارض مع النص السابق ، وهل يوجد ثمة عاقلٌ يمكن أنْ يقبل بذلك !! مع أنّ المنطق يقضي هنا باستحالة الجمع بين المتناقضين ، وعلى فرض قبول إمكانية هذه الفرضية القائلة بجواز الجمع – وهي استحالة طبعاً - ، فلماذا لم يجمع المشرع النصين معاً ويجعلهما نصاً واحداً ، وقد كنا في ذلك الحين نراجع نصوص مسودة الدستور عشرات المرات ، فما الذي منع ذلك !!
وإذْ كانت المادة (126) مؤلفةً من فقراتٍ خمسٍ فقد كان بإمكاننا اضافة فقرةٍ سادسةٍ لوضع آليةٍ أخرى على سبيل المثال !!
وتأسيساً على ما تقدم يغدو قرار البرلمان بتأليف لجنةٍ لتعديل الدستور استناداً لأحكام المادة (142) الميتة قراراً باطلاً منعدماً ، لا قيمة له ولا أثر له ؛ لمخالفته الصريحة للدستور . وإنّ من حق العراقيين أن يستغربوا أشد الاستغراب من هذه المخالفة الفاضحة الواضحة ، وأنْ يسألوا عن القانونيّين في البرلمان أين ذهبوا ؟ وعن المستشارين فيه أين حلّوا ؟ وهل يُعقل بعد كل هذه السنوات الطوال من العمل البرلماني الوقوع في مثل هذا الخطأ الفاحش الذي لا يُغتفر !!فإذا كنّا نقع في مثل هذا الخطأ البيّن والحبر الذي كتب فيه الدستور لمّا يجفُّ بعد ، فكيف بنا بعد عشرين عاماً مثلا !!
مقترحنا لمعالجة هذه المشكلة :
لا بد من التنويه ابتداءً بأنّ مرادنا من هذا الحديث هو الدفاع عن الحقيقة والدستور لا أكثر ، وليس وقوفاً بوجه التعديل ؛ ولا سيما أنني شخصياً لدي بعض الملاحظات والمقترحات التي كتبتها في سنواتٍ ماضية دعوتُ فيها الى ضرورة تعديل بعض نصوص الدستور ؛ لإيماني بأنَّ الدستور يُسن ويمكن أنْ يُعدّل فيما بعد ليواكب الزمن وحاجة المجتمع . بيد أنّ المراد من حديثنا أن يكون التعديل على وفق الآلية الدستورية ، لا خروجاً عنها . وبهذا الصدد أتقدم بالمقترح الآتي لمعالجة المشكلة التي أوقعنا البرلمان فيها ، مع بيان الآلية الدستورية المناسبة لتعديل
الدستور :
1 - يتعيّن على البرلمان أنْ يقوم الآن وبدون تأخيرٍ بإسقاط قراره المشار اليه آنفاً ، وإنْ كان ساقطاً ولاغياً بالأساس حتى مع عدم قيام البرلمان بذلك ، فهو قرارٌ منعدمٌ من الناحية
الدستورية . بيد أنّ تصحيح القرار خيرٌ للبرلمان أمام الشعب من المضي في الخرق؛ فالبرلمان ما لجأ الى ذلك إلا استجابةً لمطالب الجماهير، فكيف يمكن المضي بالإصلاح عبر ارتكاب المخالفة الدستورية!!
2 - وبعد ذلك أقترح أنْ يتم الأخذ بما عرضته صمام أمان العراق ، وأعني بذلك المرجعية الدينية العليا ، حول تأليف ما أسمته ( لجنة الخبراء ) .والأنسب أن تقوم الحكومة بتأليفها - كما طلبت المرجعية - وليس البرلمان . والشرط الذي لا يمكن تخطّيه في هذا المقام هو أن تكون اللجنة من خارج الأحزاب ، ومن الشخصيات المستقلة المعروفة بعلميّتها المتميزة في الحقول القانونية والسياسية والاقتصادية. وأنْ تنشطر هذه اللجنة بدورها الى لجنتين ، الأولى تقوم بوضع المقترحات المناسبة لتعديل الدستور ، والثانية تعمل على وضع الآليات المناسبة لتحقيق الإصلاح ، بمستوياته المختلفة،سياسيةً واقتصاديةً وغيرها. وأن تتم الإفادة من عمل لجنة تعديل الدستور المشار اليها آنفاً .
3 - وبعد انْ تنتهي لجنة تعديل الدستور في لجنة الخبراء من عملها الذي ينبغي أن يُحدّد بأمدٍ زمنيٍ معلومٍ ، تُعرض مقترحاتها على مجلس النواب .
وهنا يتم التعاطي مع هذه المقترحات على وفق ما ورد في المادة (126) من الدستور .
وغنيٌ عن البيان أنّ هذه المادة لا يوجد فيها القيد الزمني ، وهو المتعلق بضرورة حسم التعديلات في غضون أربعة أشهرٍ ،
وكذا لا تتضمن هذه المادة القيد الموضوعي ، وهو المتعلق بضرورة عدم اعتراض ثلثي المصوتين في ثلاث محافظات أو أكثر ، وهما القيدان الواردان في المادة (142) المنتهية. وهذا ما يفضي الى القول إنّ قرار البرلمان الباطل بالاستناد الى المادة (142) قد يكون مبعثه عدم الدراية ؛ وهو أمرٌ واردٌ ، وقد يكون مبعثه العمد مع سبق الإصرار ؛ إذ يرومون جعل التعديل معلقاً على شرط عدم اعتراض ثلاث محافظات أو أكثر ، في حين إنّ الأصل في تعديل الدستور – سواء على مستوى الدستور العراقي أو الدساتير الدولية – أنْ يكون معلقاً على موافقة عموم الشعب ، لا المحافظات ، وما جاءت المادة (142) إلاّ استثناءً من الأصل ، ولأمدٍ محدودٍ ؛ بغية تطمين المكوِّن الذي كان معارضاً لكتابة الدستور في حينه . والاستثناء لا يُتوسع فيه ، ولا يُقاس عليه . وعموماً فقد حدّدت المادة (126) آلية التعديل ، ورسمت له مسارين ، هما :
المسار الأول :
تقديم طلب مشترك بمقترح التعديل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ، بعد أن ينال الأخير موافقة مجلس الوزراء .
المسار الثاني :
تقديم الطلب أو مقترح التعديل من قبل خُمس أعضاء مجلس النواب .وبهذا الصدد يمكن تبنّي مقترحات لجنة الخبراء المتعلقة بتعديل الدستور عبر أحد هذين المسارين ؛ إذ يمكن لرئيسي الجمهورية والوزراء تبني هذه المقترحات ثم عرضها على مجلس النواب ، أو أنْ يقوم خُمس أعضاء المجلس بتبنّيها . ومن بعد ذلك يتم السير في الخطوات اللاحقة ، والمتمثلة بالآتي :
بعد تقديم مقترح تعديل الدستور على وفق الآلية المذكورة آنفاً يتم التصويت عليه في داخل مجلس النواب ، فإنْ حاز موافقة ثلثي أعضائه ، عُرِض على الشعب عبر الاستفتاء الدستوري
العام .وخلاصة القول في ما مضى ، إنّ الركون الى المادة (142) من الدستور يعدّ خرقاً دستورياً وأمراً باطلا لا يرتب أي أثرٍ ، وأنْ لا سبيل لتعديل الدستور سوى سلوك سبيل المادة (126) . وفي هذا الصدد اقترحنا قيام لجنة الخبراء المعنية بالتعديل بوضع المقترحات المناسبة لهذا التعديل ، ثم يتم تبنّيها من قبل رئيسي الجمهورية والوزراء أو خُمس أعضاء مجلس النواب ، ثم التصويت عليها داخل المجلس ، فإنْ حازت موافقة ثلثي أعضاء المجلس طرحت على الشعب عبر الاستفتاء الدستوري
العام .