العراق والدولة الحديثة

الرياضة 2019/11/03
...

صالح الشيخ خلف
 

هناك مساران لمعرفة الاسباب التي تقف وراء التطورات التي يشهدها العراق . المسار الاول الذي يتعلق بالقضايا المطلبية المجتمعية كالبطالة ، والفساد ، والتفاوت الطبقي ، والتدخل الاجنبي ، وسوء توزيع الثروة ، وانعدام العدالة الاجتماعية وغيرها من العوامل التي يعيشها المواطن ويلمس اثارها في واقعه اليومي باعتبارها قضايا معاشة تدخل في صلب حياته اليومية .
المسار الثاني ، الذي يمتد الى جذور المشكلة المتعلقة بصياغة النظام السياسي . هذا النظام الذي استند على النظم القومية والطائفية والمذهبية والذي اعطى الشرعية القانونية لهذه العوامل الثلاثة التي لاتتلاءم بالمطلق مع الاوضاع العامة والتطورات العالمية الراهنة ، وتحديدا في مايتعلق بظروف العولمة والياتها التي وصلت الى جميع المجتمعات ومنها المجتمع العراقي .
في العام 2003 وتحديدا في شهر مارس اذار ، اي قبل شهر تقريبا من الهجوم الامريكي على العراق ، انعقد مؤتمر صلاح الدين بطلب من الولايات المتحدة مثلها السفير زلماى خليل زاد بمشاركة اقطاب المعارضة العراقية لتحديد المسار الذي يستند اليه العراق مابعد سقوط النظام السابق . وقتها كنت صحافيا اغطي الاحداث والتطورات ، التقيت الصديق موفق الربيعي الذي كان مشاركا في المؤتمر . سالته عن التصورات السياسية المطروحة لبناء العراق في مرحلة مابعد صدام . نقل ان العراق متعدد القوميات والمذاهب والطوائف وبالتالي من الضروري ملاحظة اي تصور يريد بناء العراق لهذه العوامل . وزاد ، ان النموذج اللبناني ربما يكون الافضل للعراق في هذه المرحلة . وعندما سالته عن كيفية تجاوز القوات الامريكية التي تريد دخول العراق ، قال يمكن ان نستعين بمنظمة الامم المتحدة لتجاوز المرحلة التأسيسية وصولا للدولة القادرة على ان تحفظ مصالح القوميات والطوائف والمذاهب المختلفة التي يتشكل منها المجتمع العراقي .
الان وبعد مرور اكثر من عقد ونصف على الاطاحة بنظام صدام ، لا النموذج اللبناني استطاع حل مشكلة العراق ، ولا الامم المتحدة نجحت في عبور العراق لمشكلاته المعقدة .
وكما هو معروف ، فان النموذج اللبناني ولد على خلفية اتفاقية سايكس بيكو التي عقدت بين فرنسا وبريطانيا ابان سقوط الدولة العثمانية وخضوع المنطقة للاستعمار الجديد . لكن في نهاية المطاف لم يستطع النموذج اللبناني الصمود امام التحولات الاجتماعية والدولية والاقليمية مما افقده عوامل البقاء . في لبنان كان ولايزال النظام السياسي تتقاسمه القوى الطائفية والمذهبية والذي انسحب على مراكز القوى التي تقاسمتها المكونات والطوائف ، حتى ان المناصب الحكومية توزعت استنادا على النظام الطائفي الذي حكم لبنان طوال الستين او السبعين عاما الماضية . وبعد حرب اهلية دامت 15 عاما لم يكن امام اللبنانيين الا خيار العودة للنظام الطائفي بعد مؤتمر الطائف الذي رعته السعودية في تشرين الاول / اكتوبر من عام 1989 الذي سعى لالغاء الطائفية السياسية لكنه لم يضع امدا زمنيا لذلك . لم يتغير النظام السياسي بشكل ملموس اللهم الا في النجاح في انهاء الحرب الاهلية التي دفعت بالجميع  للقبول به حفاظا على ما يمكن الحفاظ عليه في بلد يسمى لبنان . ربما يكون النظام الطائفي اللبناني قد خدم لبنان في مرحلة معينة جاءت على مقاسات المؤسسين الاوائل ، لكن المشكلة التي وقع فيها ان مثل هذا النظام لم يستطع ان يتلاءم مع متطلبات « الدولة الحديثة » ، كما ان « النظام الطائفي » لم يستطع التناغم مع تغيير موازين القوى بين الطوائف والمذاهب ، ناهيك عن ان « الدولة الحديثة » لايمكن ادارتها عبر المحاصصة الطائفية .
ان نظام المحاصصة الطائفية الذي استند الى « التوافقية السياسية » الذي طبق في العراق بعد العام 2003 على غرار النموذج اللبناني اصطدم بمشكلات بنيوية في ادارة الدولة والمجتمع ، الامر الذي خلق كانتونات ادارية وحكومية انسحبت على جميع المرافق السياسية والحكومية والامنية والعسكرية اذ كان بعيدا كل البعد عن مقومات « الدولة الحديثة » في بداية الالفية الثالثة بالشكل الذي لم تتشكل في اطاره نظرية « العقد الاجتماعي » بين الدولة والمجتمع حتى في تصوراتها الابتدائية الاولية .
الجيل الجديد في العراق الذي يتراوح عمره في حدود العشرين عاما تقريبا لايملك في مخيلته تصورا عن النظام الاستبدادي السابق . انه يمتلك احساسا مشتركا مضادا للنظام الطائفي الذي نمى فيه ويريد ان يحدد مستقبله في ظل نظم سياسية واجتماعية واقتصادية تستند الى اساس « المواطنة » وفي اطار مبادئ « العدالة الاجتماعية » .
ان الظروف الحالية يجب ألا تمر مرور الكرام وان لا يتم اختزالها بتوافقات سياسية بين المكونات حتى وان كانت هناك عملية جراحية من اجل رسم مستقبل واعد للعراقيين تضمن عدم العودة مرة اخرى لتقديم المزيد من التضحيات لبناء الوطن وفق اسس « الدولة الحديثة » بعيدا عن المحاصصة الطائفية والسياسية .