د. كريم شغيدل
يجمع العديد من الباحثين على أنَّ الحداثة العربية أظهرت تجلياتها في الشعر بصورة أعمق وأوسع من بقية الحقول، ونرى أنَّ المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بقيت على التوالي أسيرة السلطة وطبقات الهيمنة التقليدية والأعراف القبلية والتقاليد، والملاحظ أنَّ تلك المجالات انفتحت وشجّعت على التحديثات التقنية، إلّا أنّها ما تزال متمسكة بمنظومة القيم التقليدية، وما تزال لها حصة من الشعر التقليدي الذي يتناغم مع أنساقها، وقد ارتبط مستوى التحديث في الشعر بمستوى الاتصال بالغرب والإفادة من تجليات حداثته وبمستوى الانقطاع عن الماضي المتمثل بالتراث من جهة، وبالقيم والأنساق السلفية السائدة في الحاضر من جهة ثانية.
إن كان بعض المعنيين يرى أنَّ المجددين لم يتخلّصوا من رواسب الماضي، فإنَّ بعضاً آخر نظر إلى قصائد نازك والسيّاب والبياتي والحيدري، على أنّها نثر غامض لايمتُّ بصلة لعمود الشعر العربي، وتقليد للشعر المترجم، ما جعل (نازك الملائكة) تدفع هذه التهم ببراهين عروضية "بحيث يمكن أن نستخرج من كل قصيدة حرّة مجموعة قصائد خليلية وافية ومجزوءة ومشطورة ومنهوكة"
، ولا يختلف موقف البياتي الذي يرى في التراث نهراً زاحفاً نحو المستقبل، إذ يمايز بين دلالاته الثابتة التي تمثل الانقطاع.
ودلالاته المتغيرة التي تمثل التواصل، وينحاز (أدونيس) لتجربة جيله فيرى أنَّ الشعر قبل مجلة "شعر" كان "تقميشاً: يؤالف ما بين عناصر موروثة بنوع من الصياغة أو يؤالف بين هذه وعناصر مكتسبة (غربية على الأكثر) بنوع من الصياغة، لهذا كان أسير"النظام" و"المفهومية" وبقي رهين ارتداد أو حنين ماضوي، بعيدا عن فهم اللحظة الإبداعية التي تفجرها القوى الطالعة، قوى المستقبل"، وإذا كان (أدونيس) يقلل من أهمية "قصيدة التفعيلة" لحساب "قصيدة النثر" متخذاً من مجلة "شعر" لحظة التأسيس للحداثة الشعرية
، فإنَّ لـ (عبد الله الغذامي) رأياً مغايراً يرى أنَّ "قصيدة النثر" لم تدخل في ضمير الثقافة العربية "ولذا لم تحدث أيّة ردّة فعل ولم تسهم في خلخلة النسق أو زعزعته لأنَّ النسق أكبر منها ولم تتوصل بأدوات النسق في محاربته
، وعلى عكس ذلك قصيدة التفعيلة التي تولت هزّ النسق وتكسيره حتى حققت تغيرات نسقية ملحوظة"، ونرى أنَّ (أدونيس) من أكثر شعراء جيله توليفاً بين عناصر التراث والحداثة ما لم نقلْ إنَّ تجربته الأساسية بنيت على استلهام عناصر الحداثة في التراث، سواء أكان هذا على المستوى النظري الذي تجلّى في كتابه "مختارات من الشعر العربي" أم على مستوى شعره، ولعلّ كتابه الذي صدر أواخر القرن العشرين "كتاب أمس المكان الآن- مخطوطة منسوبة للمتنبي" خير دليل على عملية التوليف التي اتخذ منها عامل انتقاص من الشعر الذي كان سائداً قبل مجلته
، وإذا كان (أدونيس) ينكر أي تأسيسات للحداثة قبل وربما بعد مجلة "شعر" فإنَّ (فاضل العزاوي) لا يجد صعوبة في رصد عناصر ما بعد حداثية في تجربة الروّاد ومن عاصرهم من جيل الخمسينيات مثل: "الأسطوريّة عند السيّاب، الأيروتيكية عند حسين مردان، نقد الحضارة والمدينة عند بلند الحيدري، العاطفية الحسّية عند الملائكة، الرمزية عند البياتي
، الصورة اليومية والعابرة عند "سعدي يوسف"، ولـ(ت. س. اليوت) الذي اتخذ منه السياب أنموذجاً محفِزاً للتجديد، رأي متوازن لصياغة علاقة الشاعر بالماضي إذ يقول: "ما من شاعر، ما من فنان في أي مكان، يملك معناه الكامل منفرداً" وقد يحيلنا هذا القول إلى مفهوم "التناص" إلاّ أنَّ (أدوارد سعيد) يعلّق عليه بقوله: "لا نملك طريقة عادلة لحَجْر الماضي عن
الحاضر.
إن الماضي والحاضر متفاعمان، كلٌّ يشي بالآخر ويوحي به، وبالمعنى المثالي كليّاً الذي ينتويه إليوت
، فإنَّ كلاّ منهما يتعايش مع الآخر"، ونرى أنَّ تجربة الرواد قد بنيت على فكرة التعايش المثالي بين التراث والمعاصرة، بين الأصالة والتجديد، وقد أثار إليوت نفسه سؤال العلاقة بين الموروث والموهبة الفردية، في مقال ترجم للعربية ما لا يقل عن خمس مرات ما أثار اهتمام المثقفين العرب
، وليس مستبعدا أن يكون السيّاب أو غيره من أبناء جيله قد اطلعوا على هذا المقال، ويرى الدكتور (محسن جاسم الموسوي) أنَّ "النصوص ليست (بلاغات) مستقلة، ولهذا تستعاد أدبيا قراءة (الموروث) و(الموهبة الفردية) لمعرفة حدود المشاركة الفردية داخل منظومات موروثة"
، ونقف عند (بلند الحيدري) على موقف صريح من التراث "فكما أنَّ سقوطنا في التراث بمفهومه السلفي الجامد الذي يرفض التطور والتجديد خطر نؤاخذ عليه فإنَّ هجرانه واعتباره ماضياً منتهياً أشد خطراً لأنّه سيوقعنا حتماً إلى شخصية مسطحة لا عمق لها ولا ظلال" ويؤكد الحيدري مردفاً "بأنَّ التراث وحده الذي يميز معاصرتنا ساعة لا ننظر إليه وكأنّه متحف لمجموعة من المومياءات"، وعلى وفق هذه المنظورات المعتدلة يمكننا تصور علاقة حركة التجديد
بالتراث.