حصاد الشرّ الإنساني!

الصفحة الاخيرة 2019/11/04
...

 جواد علي كسّار
 
يشعر الإنسان بالأسى والبؤس الكبير حينما يلحظ بعض مرافق الفكر وما تبذله من جهود جبارة لمعالجة المشكلات الوجودية والفلسفية، وهذا ما ينطبق على ما بذله العقل الإنساني من جهود فلسفية منذ أفلاطون حتى الآن، على صعيد قضية الشرور بمظاهرها الطبيعية كالزلازل والآفات والأمراض، والشرور الوجودية كالشيطان والوسوسة وما إلى ذلك.
ووجه البؤس يكمن في المفارقة الكبيرة بل البون الشاسع بين حصاد الشرور الطبيعية والوجودية وحصاد الشرور الإنسانية، ذلك أن الشرور الإنسانية فاقت في مظاهرها وتبعاتها المدمّرة الشرور الطبيعية والوجودية بحيث لا يمكن المقارنة بين الاثنين. وإلا ما هو وجه المقارنة بين الآثار التخريبية الهائلة لأسلحة الدمار والمجاعة والفقر وتلوّث البيئة وعسكرة الفضاء وسوء التغذية والجريمة بمختلف ضروبها، والاضطرابات الناشئة عن المشكلات النفسية، وبين ما يترتب مثلاً على موجودات مثل العقارب والحيّات والوحوش!. إنَّ من يموت بالانتحار والكآبة النفسية في بلد واحد من بلدان العالم، يفوق حاضراً من يموت بلدغ الأفاعي والعقارب والوحوش في جميع أنحاء العالم خلال سنة، مع ذلك لا يزال الفكر الفلسفي في أوروبا يتحدّث عن الشرور الطبيعية والوجودية، متغافلاً ما يجترحه الإنسان بيديه من موبقات وجرائم فظيعة!
كما أنَّ من يموت بالإيدز سنوياً يفوق عدّة مرات من يموت بفعل الزلازل والكوارث الطبيعية في العالم، بالرغم من أنَّ الكثير من مظاهر الشر الطبيعي مثل الزلازل والفيضانات وارتفاع درجات الحرارة، ما هي إلا نتائج لتخريب الإنسان الدائم للطبيعة وعبثه بموازناتها الوجودية! 
لقد لابست فكرة الشرّ الوجود الإنساني منذ بواكيره الأولى، فبالإضافة إلى الأديان الكتابية اعتنت الحضارات الإنسانية القديمة في بابل وما بين النهرين ومصر والهند وفارس واليونان بالمسألة وبلورت العديد من النظريات حيالها.
من جهته قدّم الفكر الفلسفي والديني عدداً من التكييفات النظرية لمعالجة إشكالية الشرور، ربما كان أبرزها وأكثرها صدىً في مناخات هذا الفكر أطروحة عدمية الشرور. الأساس في هذه الأطروحة أنها تذهب إلى عدم وجودية الشرور، ومن ثمّ فهي لا تحتاج إلى مبدأ فاعلي يوجدها لأنها إعدام أو ترجع إلى العدم. لا تقصد الأطروحة بعدمية الشرور، العدم المطلق في مقابل الوجود، بل العدم المضاف، وقد استند متبنّوها لإثبات رؤيتهم إلى عدد من الأدلة، منها برهان الخُلف والاستقراء وغير ذلك.
لهذه الأطروحة خلفية عريقة في الفكر الفلسفي والديني تعود بها إلى أفلاطون، وهي تكفي بالبناءات النظرية التي تقدمها لضرب الأساس المنطقي الذي ترتكز إليه الاتجاهات الثنوية والإلحادية، التي تأخذ من الشرور ذريعة لدعواها في الجحود بالخالق. هذه هي باختصار الخلفيَّة التي تستند إليها مسألة الشرور في الفكر الديني والفلسفي. لم يعد لإشكالية الشرور في اتجاهات الفكر السائدة في العالم الإسلامي وفي المشرق عامة ـ شأن يذكر على الصعيد الفلسفي والفكري، بإزاء التنامي المطّرد والاتساع الخطير في رقعة الشر الاجتماعي الناشئ عن الفعل الإنساني ذاته، وتفاقم آثاره بما يهدّد وجود الإنسان ذاته.
بتعبير أوضح أصبح من المضحك حقاً الحديث عن الشرور الطبيعية الناجمة عن الزلازل وأمثالها، والشرور الوجودية الناشئة عن لدغات العقارب والحيات وافتراس الوحوش والوساوس الشيطانية، في مقابل الشر الهائل الذي يصدر عن الإنسان في العالم المعاصر.