العيون الحمر!

الصفحة الاخيرة 2019/11/05
...

حسن العاني 
ما أحببتُ أحداً في حياتي مثل حبي لجدي (ملا لطيف), فهذا الرجل الذي عاش أربعاً ومئة سنة, تهيأ له أنْ يرى العراق عن قرب حيث عاش طفولته ومراهقته الأولى في مسقط رأسه (عنه) لينتقل بعدها طلباً للعمل ولقمة العيش, جمع الى جانب كونه يعطي دروساً للصبيان في قراءة القرآن معرفة عالية تنم عن خبرة وذكاء في الزراعة ومبادئها فاشتغل فلاحاً, وفي فنون الحياكة اليدويَّة فعمل حائكاً, وفي البناء فكان من أمهر الاسطوات وأشهرهم على أيامه في تشييد البيوت والمساجد والمدارس.
كان رحمه الله يذهب وراء رزقه ولا ينتظر أنْ يأتي إليه, وهكذا استقر في مدينة الفلوجة أربع سنوات وفي السليمانية ثلاث سنوات وفي بعقوبة سبع سنوات وفي الحلة سنتين وفي غيرها من مدن العراق, ولكنْ أطول مدةِ عملٍ أمضاها كانت في سوق الشيوخ أو على وجه الدقة في ذي قار حيث تنقّل بين عددٍ من مدنها, وقد استمر بقاؤه في هذه المحافظة التي يتحدث عنها بعشق غريب لكرم أهلها وطيبتهم, قرابة تسعٍ وعشرين سنة, قبل أنْ يستقرَّ به المطاف أخيراً في بغداد أي مع والدي, وكنت أمازحه وأنا في أول شبابي فأقول له بحضور جدتي (خضيره) (أنت تعشق الناصريَّة لأن جدتي (خضيره) من السوق) والحُّ في مزاحي (تعرف جدو ذوقك كلش راقي لان جديتي خضيره بهذا العمر ما شاء اله وماكو مره بحلاتها), كانت جدتي تبتسم بانتشاء وتقّبلُ رأسي وأرد لها التحية بتقبيل يدها وكان جدي يرد عليّ بمزاح مماثل (أسكت ملعون- خاف جديتك بتالي العمر تترقه علينا), ونضحك نحن الثلاثة بألفة ومودة عاليتين..
لم يكن جدي حافظاً للكتاب الكريم ولمئات الأحاديث النبويَّة الشريفة وقصص الأنبياء والأولياء والصالحين, وآلاف القصائد والأبيات الشعريَّة والأمثال والحكم والأقوال فقط, بل كانت ذاكرتُهُ حيةً متوقدة لحكايات عاش أحداثها, وربما كانت تلك الحكايات هي أكثر ما تستهويني في حافظة جدي, ولعلها أحد أسباب حبي له وتعلقي به..
واحدة من أطرف تلك الحكايات أنَّ رجلاً يدعى عبد الله المنسي يمتلك ورشة كبيرة لصناعة المعدات الزراعيَّة والصيد, وبسبب هذا التنوع استعان بخدمات عددٍ من الاسطوات والعمال, وكان مردود الورشة عالياً الى الحد الذي جعله واحداً من أثرياء الناصرية, وزاد في ثرائه إنه افتتح محلاً واسعاً تولى أولاده الثلاثة إدارته, فيما تفرغت زوجه وابنتاه لمهنة الخياطة, وكان الجميع (يسلمون) ما يحصلون عليه الى المنسي حتى آخر فلس, وعلى ما يذكر جدي فإنَّ مدخوله الشهري كان يعادل راتب وزير, ولكنَّ الغريب في أمره إنه كان لا يرى أسرته حتى بلقمة (هنيّة), أما هو فيصرف على نفسه ببذخ, ويقول جدي إنَّ أكبر أولاده (مهاوش) بلغ الخامسة والثلاثين من العمر وهو عازبٌ, لأنَّ المنسي لا يتولى تزويجه, ولا يعطيه درهماً واحداً مقابل عمله في المحل يساعده على توفير مبلغ الزواج, وهكذا اجتمعت الأسرة بعد أنْ نَفَدَ صبرها وبلغت من الأذى ما لم تعد قادرة على احتماله, وقررت الخروج عن طاعته, واذا اقتضى الأمر تعاونت على حجزه... ونفذ أفراد الأسرة فعلاً ما اتفقوا عليه, وواجهوا المنسي بالعين الحمراء, وسرعان ما اكتشفوا انه أوهى من جنح ذبابة, فإذا به يتوسل ويطلق الإيمان الغليظة على أنْ يسعدهم من الآن قبل نفسه, وقبلتِ الأسرة أيمانه ولكنها قررت لو عاد الى سيرته القديمة فسيكون عقابه أقسى, غير أنه كان صادقاً في ما وعد, وان كان يفكر احياناً اللعب بذيله, غير انه ما يكاد يتذكر ايام العين الحمراء حتى يتراجع ويلتزم بعهوده!!