«الايرلندي} .. استند الى خيال ساخر عن فضح الذات

الصفحة الاخيرة 2019/11/05
...

غراهام فوللر*

ترجمة: مي اسماعيل

 
هناك شعور بالحنين للماضي والتخلي عنه في ذات الوقت في فيلم “الايرلندي أول فيلم يخرجه “مارتن سكورسيزي” عن الجريمة المنظمة (ولعله الأخير). أبطال الفيلم ممثلو سكورسيزي المفضلين: دي نيرو و”جو بيشي” و”هارفي كيتل”؛ وآل باتشينو؛ الذي بات أيقونة لأفلام الجريمة المنظمة (في دور جيمي هوفا، بأول عمل له مع سكورسيزي). ظهر الممثلون بأعمار أصغر في بعض المشاهد (خاصة دي نيرو)؛ بفضل التقنية الرقمية باهظة الكلفة للتعرف على الوجوه، في فيلم قدم صورة ملحمية عن الرجل الذي قتل. 
 عن الذنب والولاء
اذا كان هذا الفيلم وداعا لشخصيات وأفلام سابقة؛ فقد أدخل المخرج مشاهد حركة لاضفاء المتعة على السيناريو.. حطم دي نيرو (الذي قدم شخصية “فرانك شيران”؛ الوسيط وقاتل نقابات العمال والجريمة المنظمة المأجور، وهو شخصية حقيقية، توفي سنة)  2003عن 83 سنة) اسطولا من سيارات الأجرة (من ذات النوع الذي قاده دي نيرو في فيلم- سائق التاكسي). 
لم ينحصر الامر فقط بسكورسيزي وأدبيات المافيا لتجعل من الفيلم ترنيمة قداس للموتى؛ بل الطريقة التي تحول بها من دراما- كوميديا حماسية واسعة الحدود حول شيران (وهو شخص خارجي) وانغماسه لثلاثة عقود في حياة المافيا، الى تأملات حزينة عن الصداقة والخيانة والشعور بالذنب الذين لا يزول حتى يأخذه الرجال الى قبورهم.
تمثل حياة المافيا (التي تمضي بقواعدها الخاصة عن الواجب والولاء) استعارة مجازية اجتماعية لسكورسيزي، كما مثلت مسألة ديناميكيات الاسرة في سلسلة “الاب الروحي “ لفرانسيس فورد كوبولا. لم يُعنَ فيلم “الايرلندي” بالقانون والنظام؛ بل كان تلاعبا أخلاقيا يُجبِر شيران على مواجهة تضارب في المصالح لا يمكن حلّه. وهذا يقدم أكثر مما وضعه كاتب السيناريو “ستيفن زيليان” حينما تمسك باعتراف شيران غامض العبارات (الذي باح به الى “تشارلز براندت”؛ مؤلف كتاب “سمعتُ أنك تطلي المنازل”  عن حياة شيران، والذي استند عليه الفيلم) بأنه هو الذي اغتال زعيم نقابة سائقي الشاحنات السابق “جيمي هوفا”، يوم 30 تموز سنة 1975.
يخضع شيران (وهو في أواسط الثلاثينيات) لتوجيهات زعيم المافيا في شمال شرق بنسلفانيا “راسيل بوفالينو” (يؤدي دوره بيشي)؛ الذي يوصي به للعمل مع هوفا كمنفذ تعليمات وراعي مصالح. يضع هوفا مقدارا كبيرا (ومؤثرا) من الثقة في شيران؛ فيرتدي ملابسه المنزلية بحضوره ويترك باب غرفته في الفندق مواربا؛ وهي اشارة من رجل ملاحق بأنه يثق تمام الثقة بحماية حارسه الشخصي. بعد 28 سنة من قيامه باغتيال هوفا؛ يترك شيران باب غرفته بدار الرعاية مواربا، في آخر لياليه على قيد الحياة.. لكن المحاكاة ليست واضحة: هل هي إحدى عادات رجل مسن، ناجٍ يثق بحماية الرب، أم رجل يدعو الموت للدخول؟ رغم أن شيران العليل لا يعترف لزواره من رجال مكتب التحقيقات الفدرالي “FBI” بأنه قتل هوفا (حتى لأجل أولاد هوفا)، ولم يعترف بندمه الى القس؛ لكن الذكرى تطارده بوضوح، خاصة بعدما اتصل هاتفيا بأرملة هوفا “جو” (أدت دورها- ويلكر وايت) ليخبرها أن زوجها سيعود قريبا.  
 
شيران- بروتس
لا تدور معركة الفيلم الملحمية بين هوفا ورجال العصابات الذين يهدد بكشفهم بعد الموت إذا حاولوا إيذاءه؛ بل بين شيران وضميره؛ مثقلا باتهام من رجل يحترمه أكثر ما يمكن بجريمة قتل تحاكي جريمة قابيل تجاه رجل يعجب به بنفس المقدار تقريبا. يفهم شيران من مجريات حفل عشاء النقابة (حيث يُلقي هوفا الخطاب الرئيس ويقدم له ساعة ذهبية مرصعة بالالماس) أن هوفا يوقع مذكرة إعدامه بنفسه، في سعيه لاستعادة رئاسة النقابة وإزاحة المافيا جانبا. ولكن حين يعلم شيران أن عليه قتله؛ يُحس بالصدمة لأنهم أعطوه دور بروتس (قاتل صديقه يوليوس قيصر. المترجمة). هنا تجري سلسلة طويلة من الرحلات (رحلتان جويتان وأربع بالسيارة) هي ما يحتاجه شيران ذهابا وعودة من المنزل الذي سيطلق فيه النار فعليا على مؤخرة رأس هوفا مرتين؛ وقد استخرجت بعضا من أكثر البراعة التمثيلية غموضا وتألقا في مهنة دي نيرو. أما مناطق الطبيعة في ميشغان التي تطير فوقها طائرة المسافر الواحد ناقلة شيران الى ديترويت، وضواحي الطبقة الوسطى عديمة اللون التي يقود عبرها السيارة فجرى تصويرها ببرودة مؤذية على يد المصور السينمائي المفضل لدى سكروسيزي: “رودريجو برييتو” (مصور فيلمي- ذئب وول ستريت و”الصمت”). يمثل هذا المقطع الذروة الممتدة الحاذقة لفيلم “الايرلندي”.. الرتيبة على السطح والعكرة تحته؛ وتتركز فيها فكرة الفيلم المتمثلة بأن عنف المافيا لم يعد حكرا في المجال السينمائي على محلات سكن الصقليين ذوي القمصان السوداء وأربطة العنق البيضاء، أو رجال بروكلين المتحاذقين ذوي البدلات اللامعة. هنا يجري تنفيذ عنف المافيا على أيدي رجال في منتصف العمر؛ مُتعَبين ولكنهم أكفاء، يستقرون في نُزلٍ بسيطة ويلعبون البولينغ مع زوجاتهم ويسردون النكات اللطيفة للبنات الصغيرات.. كما فعل بوفالينو بحديثه مع “بيغي شيران”.. الابنة التي صارت لاحقا حكما على والدها.  
 
خيال فضح الذات
قدم الفيلم براعة متميزة في تصوير اللقطات بكاميرات متحركة، وأظهر استخدام تسميات وألقاب (خاصة بالدوائر الداخلية للعصابات) تكشف بنوع من الكوميديا كيف لاقى العديد من رجالها حتفهم. لكنه عموما أقل تنميقا من باقي أفلام سكورسيزي؛ وتكمن براعته بتضافر جهود المخرج والمونتيرة “ثيلما سكونميكر” لإنتاج تزامنات اوركسترالية لهجمات رجال المافيا، وتأجيج هوفا لإمكانات موقعه ومعطياته؛ بمشاهد حافلة بدراسة لملامح الوجوه ومنطق الفراسة، تليق بفن “إيليا كازان”.. هناك أيضا مشاهد الاحاديث الحميمة بين شيران وهوفا وبوفالينو؛ التي قدم فيها بيشي أداء هادئا ماكرا جميلا، ليكون عامل توازن أمام أداء باتشينو الهجومي الساحر. 
قد تبدو المفارقة الكبرى في “الايرلندي” أنه استند عمدا على ما قد يكون خيالا ساخرا عن فضح الذات؛ دبره شيران في مقابلاته مع براندت، ليجني ورثته المكاسب 
بعد وفاته .