اللون والجسد

ثقافة 2019/11/11
...

ياسين النصير
كيف نتعرف على الأشياء في الواقع، ولماذا تقترن معرفتنا بالأشياء بألوانها؟ عندما أحتاج كتابًا من مكتبتي، أبحث عن لونه الذي بقي في ذاكرتي، مقترنًا باسمه. وعندما أختار ملبسًا ما اختار لونه قبل أن اتلمس مادته، وقد تبدو ماركة الشيء جزءًا من انثروبولوجيا اللون، وقد تعرفنا تاريخيًا على أنواع من القبائل من خلال ألوان أعلامها، ووشم وجوهها، وطريقة طهي غذائها، وانواع الرقصات التي يتقنونها، كل هذه ألوان، فاللون المعني هنا طريقة في الوجود، وليس غطاء للجسد، أو علامة من دون معنى. فالذاكرة تخزن اللون مقترنا بالاسم، فتبدو حواسنا وهي تعرض الأجسام أمامنا، ترتبط أولًا بألوانها، هكذا تقول فلسفة الألوان، ربما يخالفني بعض الرسامين الذين يرسمون اشكالًا ثم يغيّرون ألوانها لإعطائها طابعًا رمزيًا أو ايقونيًا، ومع ذلك لا يمكن وجود الشيء من دون لونه. 
إن الانطباع البصري لرؤية الأشياء عبر ألوانها وحده يتضمن "مكانية" معينة. بحسب كوندياك وديدرو، فإن لحاسة اللمس مهمة واحدة  ووحيدة، هي توضيح التجارب التي نتلقاها من حاسة البصر وتثبيتها، وهما لا يعتبران أن حاسة اللمس لا غنى عنها في نشوء التصور المكاني، ولكنها ضرورية لتشكّله" ص 158 فلسفة التنوير. ومع ذلك لا تكفي حاسة البصر ولا حاسة اللمس لتعيين موضوعية الشيء، بل ما يحدد موضوعية الشيء هو "وجودي" أنا في المكان الذي يوجد فيه الشيء، بحيث كلما عدت للمكان نفسه، أرى الشيء ذاته، والفرق واضح بين وجود الشيء وبين رؤيتي للشيء الموجود، الأول تحكمه طبيعة الشيء ذاته من أنه موجود في هذا الجسد الذي هو المكان، ويباشرني بحضوره، بينما الثاني تحكمه طبيعة حواسي المنعكسة في دماغي للون ومادة الشيء، وقد يأتي شخص آخر فيجد تصورًا آخر للشيء ليس عبر لونه وإنما عبر لمسه أوشمه أو تذوقه، بالرغم من أن هذه الحواس ليست مُطمئنة دائمًا. 
لأن الحواس مداخل فردية لمعرفة الأشياء، ولذلك لا يطمئن لنتائجها، لأنها متغيرة من شخص إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر، وهكذا يبقى انطباعنا عن اقتران اللون بالشيء مجرد تصور ذاتي، فقد تتعدد الأشياء ذات اللون الواحد وقد يتعدد اللون نتيجة لذلك التعدد بتعدد الأشياء، ومتى ما اخضعنا الأشياء للتجريب العملي نكتشف التدرجات اللونية  للشيء، فالأخضر مثلًا ليس على درجة ثابتة في الحشائش والنباتات المائية والصحراوية والطبيعية والملابس والإشارات والأحياء الأخرى، هذه التنوع اللوني يتبع عوامل أخرى كالبيئة والجينات وتأثير المناخ والتربة والماء والعمل والرؤية، ومن هنا يمكن القول العام من أن الألوان تؤشر إلى الأشياء ولا تقيمها، والفرق بين تأشيرها الذي يرتبط بمظهرية القشرة الخارجية، وبين تقييمها الذي يرتبط بعلمية اللون، وغالبًا التقييم الجمالي بالتركيب والتشريح، وليس باللون
 الخارجي.
في الفن التشكيلي، القلة من الفنانين من يلجأ إلى تشريح الشيء ليكتشف ألوانه المتعددة، نحن نعرف أن للشيء طبقات، شأنه شأن الأرض، وأن لكل طبقة لونها الخاص، المنبثق من تركيبته وطبيعته التكوينية، ولذلك يخلط الفنان المتميز بين الألوان كي يظهرحقيقة لون الشيء وهي الحقيقة الأقرب للموضوعية، وليست حقيقة الشيء بما يباشرنا خارجيا بلونه. الألوان في فن الرسم هي طبائع النفس وتغيراتها، ولذلك تجد في قراءة اللوحة تباينات شعورية هي تجسيد لفهم الرسام إلى طبائع الموضوع وتنوعه. مثل هذه التصورات، كانت جزءًا مهمًا من الصراعات الفكرية التي سادت فلسفة القرن الثامن عشر، حين يكون المكان فاعلًا في التقويم والحكم والعمل، فألوان الأشياء لا توجد إلا من ذات الشيء، أي توجد بأمكنتها.