معايير حضاريَّة

الصفحة الاخيرة 2019/11/11
...

حسن العاني 
يقال ان حضارة الشعوب لا تقاس بعدد مصانعها ومتاجرها وعساكرها، وانما بتنوع ثقافتها  وعدد مثقفيها ومفكريها وفنانيها.. بل ذهب البعض الى القول بأن المسرح هو المقياس الحقيقي لتقدم الشعوب ونهضتها، لان الفنانين والادباء وعموم المثقفين هم النتاج الابداعي للمبادئ السامية والاخلاق الرفيعة والسلوك الراقي، ومتى ما ساد هذا النتاج وحكم مسار الشعب ازدهرت الدوافع الانسانية للمتجر والدبابة والمصنع، وبخلاف ذلك فان حضارة (الانتاج الصناعي والنفوذ العسكري) لوحدها تفتقر الى الروح النبيلة وتكون حاضنة لولادة السلطة الغاشمة والدكتاتوريات..
وهكذا علمتنا الفنانة معالي زايد درساً تربوياً عظيماً وهي تؤدي دور (زنوبة)-  ابنة العوامات  والليالي الملاح- في مسلسل " بين القصرين" حيث اقتضى دورها  أن  تغلظ القول في حوارها مع الفنان العملاق (محمود مرسي)، ولكنها فشلت ثلاث مرات وعجزت عن اصدار عبارة (خشنة) بحق "سي السيد" احتراماً لمنزلته الفنية العالية..
على مدى سنوات عديدة وانا التقي استاذي الفنان يوسف العاني بصورة يومية تقريباً، وقد سألته مرة عن قضية فنية [استاذ ابو وسن.. سبق لي ان شاهدت الفنان سامي قفطان في تمثيلية تلفازية تحمل عنوان "الصفعة" ، وقف فيها وجهاً لوجه امام الفنان المصري الكبير كرم مطاوع وشعرت بأنه ان لم يكن افضل منه فانه ليس اقل مستوى في اداء الدور، ولكوني لست ناقداً فنياً، أردتُ الاستفسار عن قفطان: هل هو حقاً كما اتصور؟[ وفي سري تصورتُ ان ردّه سيكون على النحو التالي [هذا منو سامي قفطان مقارنة بكرم مطاوع!!] او يجاملني ويقول على مضض [يعني.. سامي ممثل شايل نفسه]، ولكنني فوجئت به يتحدث عنه حديثاً مفعماً بالإطراء والاعجاب والثناء على موهبته الابداعية الرائعة وقدراته الفنية المذهلة... وانه لو كان في مصر او لندن او نيويورك لكان له شأن آخر، فهو على حد تعبيره: مشروع جاهز لفنان عالمي... لم يتحدث يوسف من منطلق (حساسية) المهنة الواحدة.. وأشهد انه علمني جماليات الترفع عن الذاتية والغرور والنرجسية وكيف نحترم الآخر..
غريب هذا المليجي محمود، أشهر من نار على علم في تاريخ السينما المصرية، ولعل  اغلب ابناء جيلي الذين فتحوا عيونهم على اعمال المليجي التي اصبحت ادوار (الشرير) هي السمة الابرز  لشخصيته الفنية، يجهلون انه لا يحسن استعمال المسدس ولا يجيد حبك مؤامرة صغيرة... كان المليجي لا يتردد عن قبول اي عمل فني، قصيراً او طويلاً، شراً او خيراً على ان يكون مقتنعاً به، ورأيه في ذلك: ان التمثيل حياة وعمل ورسالة، ولا يجوز ان يتوقف الفنان عن العطاء لأنه يبتعد عن رسالته، والدور القصير بأهمية الطويل لان الحياة مواقف وادوار يكمل بعضها البعض الآخر، والمهم هو اجادة الدور ومواصلة التمثيل، وذلك ما فعله بما يشبه الهوس طوال مشواره الفني الغني بالروائع والمواقف الشريرة والانسانية!
مريضاً يا عيني عليه تلك كانت حالة الفنان كامل القيسي (استاذي لمادة الرياضة في متوسطة الجعيفر.. وهي مفارقة)، يتحرك بصعوبة، وحين طلب منه المخرج قاسم محمد ان لا يرهق نفسه ويؤدي الدور المطلوب بتلك الجدية والحماسة، رفض بإصرار و.. وكان عليه ان يدفع الثمن، ولكنه الثمن الذي كان سعيداً  به وهو اخلاصه لعمله وفنه ورسالته.. هل قلتُ ان اللوحة والرواية والفكر والاغنية والمسرحية والقصيدة هي عناوين الأُمم  التي تركت لنا اعظم الحضارات؟! نعم قلتُ واقولها عن ايمان برغم انتعاش حضارة البارود....