جواد علي كسّار
أعلم أن الشكوى هذه هي عنوان قصيدة من روائع العلامة اللاهوري محمد إقبال، لكني اقتبسته عن عمد. إنها أنشودة نفس كبيرة انبعثت من أرض البنجاب وتفتحت على نور عُلوي شفيف، فراحت تمجّد الخير في الإنسان وتشيد بلا كلل بروح الشرق الذي عُجنت طينته بعُطرٍ فواح من وحي السماء عامة، ورسالة سيد المرسلين وخاتمهم خاصة.
حين تبحث عن السبب ليس لك أن تتجاوز البدايات الخيرة في نشأة هذا الرجل، ولنبدأ بواقعةٍ مع أبيه صاغها إقبال شعراً فيما بعد، يقول: سائل كالقضاء المبرم، طرق بابنا طرقاً متوالياً، فثُرت غضباً فضربته بعصا على رأسه، فتبعثر ما جمعه بسؤاله، والعقل أيام الشباب لا يفرّق بين ضلال وصواب. رآني والدي فاغتمّ وأربد وجهه، وتأوّه وسال الدمع من عينيه، فاضطربت روحي الغافلة وطار لُبّي.
قال أبي: تجتمع غداً أمة خير البشر؛ تجتمع أمام مولاها، ويُحشر غزاة الملة البيضاء وحكماؤها والشهداء، وهم حجة الدين وأنجم هذه الأمة، والزهاد والوالهون والعلماء والعصاة، ويأتي هذا السائل المسكين صائحاً في الحشر شاكياً، فماذا أقول إذا قال لي النبي صلى الله عليه وآله: إن الله أودعك شاباً مسلماً فلم تؤدّبه بأدبي، بل لم تستطع أن تجعله إنساناً؟ بني، تمثّل عتاب النبي الكريم ومقامي في خجلي بين الخوف والرجاء، فكّر قليلاً يا بني، اذكر اجتماع أمة خير البشر.
انظر يا بني إلى اضطرابي وقلقي، ولا تقسو على أبيك ولا تفضحه أمام مولاه، إنك كمٌ في غصن المصطفى، فكن وردة من نسيم ربيعه؛ خذ من ربيعه نصيباً من الريح واللون، لابدّ لك أن تظفر من خُلقه بنصيب.
في قصيدة «شكوى إلى الرسول» يحذّر محمد إقبال من زعماء المسلمين الذين كانوا يحجون في عصره إلى أوروبا، ويقطعون صلتهم الروحية بالنبي الكريم، فيكتب: «أنا بريء من أولئك الذين يحجّون إلى أوروبا، ويشدّون الرحال مرّة بعد مرّة، ولا يتصلون بك أبداً في حياتهم ولا يعرفونك».
في مكان آخر يشير على نحو معنوي رفيع إلى سموّ الأمة بنبيها، بكلمات ملؤها النجابة، إذ يكتب: «إن قلب المسلم عامر بحبّ نبيه، وهو أصل شرفنا، ومصدر فخرنا في هذا العالم، إن هذا السيد الذي داست أمته تاج كسرى، كان يرقد على الحصير. إن هذا السيد الذي نام عبيده على أسرّة الملوك، كان يبيت ليالي لا يكتحل بنوم، لقد بات في غار حراء ليالٍ ذوات عدد، فكان أن وُجدت أمة، ووجد دستور، ووجدت دولة، وإذا كان في الصلاة فعيناه تهملان دمعاً، وإذا كان في الحرب فسيفه يقطر دماً».
قبل عشر دقائق من وفاته ورحيله عن هذه الدنيا، كان مشدوداً إلى الحجاز، إلى تربة سيد المرسلين، وإلى النبي الذي استلهم حبه فرُزق راحة البال والطمأنينة، وكان له ما أراد ولم يخب أبداً، حيث أجمعت كتب التراجم على أن «إقبال» أنشد قبل عشر دقائق من وفاته نغماً تغنّى فيه بأرض الرسول، وما أجمل ما قال:
نغمات مضين لي هل تعود؟
أنسيم من الحجاز يعود؟
أذنت عيشتي بوشك الرحيل
هل لعلم الأسرار قلب جديد؟
لقد نظر إقبال إلى ما آلت إليه البلاد العربية ـ الإسلامية في زمانه، فثارت أشجانه وأحزانه، وكتب مرّة يندب حظّ الأمة التي ابتليت بمن يُقامر بالكرامة والمقدّسات: «إن هؤلاء الحكّام لا يُستغرب منهم أن يبيعوا جبّة أبي ذر، وكساء أويس القرني، ورداء فاطمة الزهراء، وأعزّ المقدّسات في كأس يحتسونها ولذّة ينهبونها».