جواد علي كسّار
كنت منكباً على أوراقي على وشك كتابة هذا العمود ، حين اتصل بي صديق يُنبّه الى أهمية النقطة الثانية من خطبة المرجعية النجفية الجمعة الماضي. شكرته على التنبيه وأخبرته بصدق أنني أتهيأ للكتابة عن هذه النقطة، الذي عدّها هذا الصديق الباحث نقطة تحوّل كبيرة في الفقه السياسي.
اسجّل بتواضع كبير ودون ادّعاء أنني لم أُفاجأ باعلان المرجعية نصاً: " أن الحكومة إنما تستمد شرعيتها من الشعب، وليس هناك من يمنحها الشرعية غيره". ثمّ تحدد آلية الانتخاب المباشر كوسيلة فضلى لتمثيل هذه الارادة وتحقيقها : " وتتمثل ارادة الشعب في نتيجة الاقتراع السرّي العام".
لم أفاجأ لانني أعرف أن هذا هو المنطق العام الغالب على مدرسة النجف الاشرف خلال قرون، ما يهمنا منها فعلاً هو القرن الاخير. فمبادئ الفقه السياسي في الحاضرة النجفية، لم تخرج عن هذا الاطار إلا نادراً ؛ هذا الاطار الذي شهد صياغة نظرية مدرسية مع النائيني قبل مئة عام تقريباً ، عبر مدّونته الشهيرة : " تنبيه الأمة وتنزيه الملة " من اقراره بحق الناس في اختيار نظامها السياسي ، عبر الانتخابات ، مع قيد عدم تعارض المقررات النيابية مع الشريعة.نص المرجعية النجفية بمعونة نصوص أخرى، هو تطوير معاصر داخل هذه المدرسة، باعادته الشرعية الى الشعب عبر مبدأ الانتخابات العادلة. وكلنا يعرف أن الشرعية هي مبدأ النظام السياسي، وعليها تركز الاختلاف في ابرز اتجاهات الفقه السياسي الموروث عند المسلمين ، كما في الاتجاهات المعاصرة. فقد صرفت نظرية ولاية الفقيه وما تفرّع عنها ؛ الشرعية الى الفقيه بشروط خاصة، ما جرّها الى اشكاليات التوفيق بين الولاية الالهية والارادة الانسانية ، وثنائية ارادة الشعب وولاية الفقه، فمالت في المعالجة الى التمييز بين الشرعية الالهية المتجلية في الفقيه، وبين المشروعية المتمثلة باختيار الناس وانتخابهم، فقالت بنظرية الرضا تخلصاً.
خرجت في المقابل مجموعة نظريات من عباءة مدرسة النائيني التي صرفت الشرعية الى الناس وحقهم في اختيار دولتهم ونظامهم ، من خلال الانتخابات والمجالس التمثيلية، منها نظرية الدولة العصرية للفقيه اللبناني الشيخ محمد جواد مغنية، ونظرية دولة الانسان للسيد محمد حسين فضل الله، ونظرية ولاية الامة على نفسها للشيخ محمد مهدي شمس الدين، قبل أن نصبح بعد التغيير مباشرة إزاء نظرية السيد السيستاني.
كان الانطباع الأوّل لموقف السيد السيستاني بعد سقوط النظام الاستبدادي البائد، يُشعر بتبنيه الدولة المدنية الحديثة أو الدولة العصرية المأذونة من الفقيه ، لكن بمرور الايام وتراكم المواقف وتكامل النصوص أصبحنا أمام تكييف نظري، قوامه النقاط التالية:
1 - يقوم شكل النظام ولون الحكم على أساس الشرعية الشعبية، في الحقلين معاً التشريعي والتنفيذي .
2 - الانتخاب المباشر عبر مبدأ الاقتراع السرّي العادل ، هو الوسيلة الفضلى للتعبير عن الارادة الشعبية وتجسيدها على الارض.
3 - أما موقف الشريعة في هذه النظرية ، فهو يتمثل بوجوب عدم تعارض مخرجات البرلمان والحكومة ، مع ثوابت الشريعة.