القاهرة (هنا روما)/ عرفان رشيد
بعد النجاح الكبير الذي حقّقه فيلمه الروائي الأول “جدار الصوت” بفوزه بثلاثٍ من جوائز مسابقة جائزة أسبوع النقّاد، الذي اعتُبر سابقة أولى في تاريخ السينما العربيّة، وفي تاريخ مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، التقى المخرج اللبناني أحمد الغصين بجمهور الدورة الحادية والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في أول عرض له في العالم العربي.
وبالإضافة إلى فوزه بالجائزة الكبرى في هذه المسابقة المهمّة، التي تُقام ضمن إطار مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي منذ أربعةٍ وثلاثين عاماً، فقد كان الغُصين قد حمل معه إلى بيروت في منتصف أيلول الماضي جائزة جمهور مهرجان فينيسيا السينمائي، الذي صوّت لفيلمه بحشدٍ كبيرٍ من التفضيلات، فضلاً عن جائزة “أفضل إسهامة تقنيّة”، وهي جائزة أكّدت أهمية العمل الذي أنجزته الفنّانة الللبنانية المبدعة رنا عيد، التي كما جاء في تبرير الجائزة، “تمكّنت من تحويل الصوت في الفيلم إلى بطلٍ أساسيٍّ سادسٍ إلى جانب أبطال الفيلم الخمسة”، الذين حُوصروا داخل منزلٍ في الجنوب اللبناني المهدّم بفعل عمليات القصف والمواجهة خلال حرب 2006 الإسرائيليّة ضد لبنان.
ويُشير المخرج إلى الجهد الذي بذلته رنا عيد في هذا الإطار ويقول: “ثمة في الفيلم مستويان، أو بالأحرى فيلمان، أحدهما ما يراه المتفرّج مُجسّداً من قبل الممثلين الخمسة، والآخر عبر الصوت القادم من الخارج، ومن الطابق العلوي بالذات، وقد أسرّتْ إليّ رنا بأنّ هذا النوع من الأفلام هو “حلم أي تقني صوت في السينما “، وعبر عملها معي في الفيلم أكّدت لي رنا، مرّة أُخرى، مقدار شغفها بعملها وحبّها له، لذا لم يكن للفيلم إلاّ ليخرج متكاملاً من بين أناملها”.
ويكشف أحمد الغصين عن مقدار “القلق الذي كان يتواجه معه خلال المراحل الأولى وشكوكه حول قدرة أصوات الجنود الإسرائيليّين القادمة من الطابق العلوي بالإسهام في شحن الأحداث وتوتير الشخصيات إلى الدرجة المناسبة مع ما كنت أرمي إليه، وأعتقد بأنّ الجائزة التي مُنحت إلى هذه الجزئيَّة الأساسيَّة في الفيلم، أكّدت مقدار تمكّن رنا عيد من تحقيق ما أردناه..”.
حكاية الفيلم
تدور أحداث الفيلم في ضيعة في الجنوب اللبناني اضطُرّ ساكنوها إلى هجرها، ولم يتبقَ منهم إلاّ عددٌ ضئيل من السكان وحيواناتهم الداجنة، ومن بين هؤلاء كهْلان رفضا المغادرة واعتصما في الطابق الأرضي من منزل أحدهما؛ في الغضون يُقرّر الشاب مروان، المستعدّ للهجرة إلى كندا برفقة زوجته، أنْ يستغلّ فُسحة صغيرة من وقف إطلاق النار ليتوجّه إلى الجنوب كي يُعيد إلى بيروت والده العجوز المحاصر في الضيعة.
يرفض مروان إلحاحات زوجته الشابّة والآخرين من أفراد أسرته في النكوص عن الفكرة، ويتّجه بسيّارته إلى الجنوب ليجد نفسه، بعد حينٍ، مُحاصراً هو الآخر في ذلك الطابق السُفلي من ذلك المنزل، وينضم إلى هؤلاء المحاصرين الثلاثة رجلٌ كهلٌ آخر برفقة زوجته الشابّة عجزا عن العبور بسبب انهيار وقف إطلاق النار وعودة الاشتباكات التي تدفع ثُلّةً من الجنود الإسرائيليّين إلى الاحتماء بالطابق العلوي من المنزل لدرء هجمات المقاتلين اللبنانيّين، من دون أنْ يعلم أفرادها بوجود المحاصرين الخمسة في الطابق الأرضي.
إقصاء الاب
الأشخاص الخمسة الذين اختار أحمد الغصين وضعهم داخل ذلك المنزل يمثّلون خلفيات ومشارب وثقافات وانتماءات اجتماعيَّة وسياسيّة متعدّدة، وهناك أيضاً ثمة الخيبات والاخفاقات، وكذا توجد المرأة أيضاً، وكلٌّ من هذه الشخصيات يمكن أنْ يكون أنموذجاً عن حالةٍ من حالات لبنان أو أي بلد آخر يجتاز أزمات وصراعاتٍ وحروباً مثل لبنان. الكلّ حاضرون، لكنَّ الحضور الأقوى في ذلك المكان، رُغم غيابه الجسدي، هو والد مروان، الأب الذي جاء الشاب ليُقنعه على العودة معه إلى بيروت، فما الذي سعى المخرج إلى قوله بهذا العمل؟.
يقول أحمد الغصين: “هو أنّه صار محظوراً علينا أنْ نحيا حياةً طبيعيّةً” ففي مرحلةٍ عمريّة ما، مع فكرة “إقصاء الأب”، أو ما يُسمّيه علم الاجتماع بـ “قتل الأب”، بالمعنى الفلسفي بالطبع، وليس بالفعل، فكلّ إنسانٍ يجد نفسه في لحظة ما من حياته عند مفترق طريقين، فإمّا أنْ يظلّ مُنصاعاً لسلطة وسطوة الأب، أو يتحرّر من تلك السطوة ويجد طريقه، الذي سيعني أيضاً العثور على حريّته، بكلّ ما يعنيه هذا المفهوم من معانٍ. لكنْ يبدو أنّ حتى هذا الحق صار ممنوعاً علينا في لبنان، ففي كل مرحلةٍ تكون فيها تلك الحريّة وشيكة التحقّقّ، يحدث ما يُرجئ الخطوة الأخيرة والأساسيَّة ويُحيلها إلى زمنٍ لاحق، أو إلى اللازمن، أوضّح ما أقول، وأنا هنا أتحدث الآن عن وضعنا في لبنان تحديداً: “ففي كلّ مرّة يُحظر عليك أنْ تمارس حياتك الطبيعيّة، إذْ إنّ هناك دائماً ما يأتي ليقطع التواصل، كحربٍ كبيرة، أو حدث ضخمْ، على سبيل المثال”.
حصار
أحمد الغصين، الذي أنجز فيلماً كاملاً عن الذين يرفضون مبارحة أرضهم ومنازلهم المقصوفة والمدمّرة، يتساءل عن السبب الذي يدفع هؤلاء الناس، ووالده الحقيقي أيضاً، إلى الإصرار على عدم هجر منازلهم؟ ويقول: “هذا سؤال أردّده على نفسي، ويردّده الكثيرون، سكّان الجنوب المصرّون على البقاء في أرضهم يُشبهون شخصيات غسّان كنفاني في “رجال تحت الشمس”، الذين حُبِسوا داخل خزّان شاحنة متوقّفةٍ تحت لَفَح الشمس الحارقة في نقطة حدود، يموتون داخل الخزّان بينما كان يكفيهم أنْ يطرقوا على جدران الخزّان ليتمّ إنقاذهم. القضيّة بالنسبة لجنوبيّي لبنان أبعد من المنزل نفسه أو عن جدرانه، وهو الإحساس بالخسران، فنحن خاسرون، وإنْ نجونا بجلدنا، وخاسرون إذا ما مكثنا في منازلنا، وما بين الخُسْرانَيْن، يفضّل الكثير من الجنوبيّين البقاء في الجنوب وعدم الرحيل عنه؛ وفي حالة الأشخاص المحاصرين داخل المنزل، يُصبح اللاقرار هو القرار الأكثر انسجاماً مع ما يفكّرون به، بمن فيهم مروان الذي جاء ليحمل والده معه، وهو لن يتحرّك من المكان إلاّ برفقةِ ذلك الأب الغائب – الحاضر، ويُصبح ذلك الحصار في مكان ضيّق ومُغلق فرصة ذهبيّة لمروان كي يتعرّف على والده، وأنْ يكتشف خفايا عن حياته لم يكن ليعلم بها أبداً لو أنّه بقي في بيروت أو غادر إلى كندا برفقة زوجته”.