في العام 1983م صدر في العربية السعودية كتاب بعنوان (جناية الشعر الحر)، وفي العام 1988م صدر مرسوم حكومي يمنع استعمال كلمة (حداثة) في وسائل الإعلام، كما يذكر عبد الله الغذامي، فإذا كان (الشعر الحر) جناية فبالتأكيد أنَّ (الحداثة) جريمة كبرى يمنع تداولها لفظاً ومعنىً وفكراً وسلوكا، وهذا الأمر يجري في بلد يُعدُّ من أكبر مستهلكي تكنولوجيا الحداثة، ومن أكثر بلدان الشرق الإسلامي إفادة تقنية واقتصادية وعمرانية من حداثة الغرب، ذلك أنَّ الحداثة هي التي أخرجت البترول من باطن الأرض وأعطته الأهمية الاقتصادية التي يتمتع بها اليوم، وهي التي مكّنت الإنسان من توظيفه في إنتاج الطاقة، ومن ثمّ جعلته يشكّل دخلاً قومياً، حوّل البلدان الصحراوية الجرداء إلى واحات اقتصادية وعمرانية تضاهي بلدان
الغرب.
ونرى أنَّ هذا الفصام الحضاري الذي يتجسّد في قبول جميع ما أنتجته الحداثة، من تقدم وعمران حضري إلى حدِّ الإفراط والتباهي من جهة، ورفضها بكونها ثقافة ووعياً وانشغالاً معرفياً من جهة ثانية، هو الإشكالية الحقيقية التي أفضت إلى تمركز الاستبداد، بعد استقواء السلطة بتقنيات (الحداثة) واقتصادياتها في تكريس وجودها التقليدي، وإذا كانت العربية السعودية بسبب سطوة المؤسسة الدينية المعروفة بسلفيتها المتزمتة تملك خطاباً يسمح بمعاداة الحداثة علناً، فإنَّ بقية الأنظمة العربية ليست أقل عداءً للحداثة، بل هي في حرب مستمرة ضدّها من دون الحاجة إلى منع تداولها بقرارات ومراسيم، فالنظام العربي ذو نسق أيديولوجي واحد يمارس إقصاء "الحداثة" ثقافياً، وتتضافر معه في هذا مختلف مؤسسات المجتمع، فرفض مبادئ الديمقراطية وتداول السلطة، وقمع الحريات، والطابع التقليدي السلفي لمنظومة المناهج التربوية والتعليمية، وشيوع ظاهرة الاستبداد الفردي والحزبي أو الأسري، وانتقال الحكم وراثياً، وهشاشة النظم البرلمانية، وعدم فصل السلطات، وتقييد حريات التعبير والتفكير، واتخاذ المؤسسات الدينية أغطية لفرض الهيمنة الأيديولوجية، وغيرها من المظاهر، كلّها تؤدي إلى نبذ "الحداثة" واندثار قيمها، ومن ثمّ حظر ما يمكن أن ينتجه الانشغال المعرفي من تغيرات أو انسلاخات اجتماعية وسياسية، وتجديدات إبداعية ثقافية، وتنوير فكري، وللنسق المهيمن آلياته في انتقاء ما يريد من الحداثة أو في تعطيل محاولات الخروج على الإجماع النسقي، فللأيديولوجيا حيلها النسقية غير المدركة في إحداث موازنات نسقية، فما أن يظهر مدٌّ ديمقراطي ينبثق بإزائه مدٌّ استبدادي، وما أن يظهر مدٌّ علماني حتى يحاط بأسيجة أصولية، وفي هذا السياق رأى الغذامي "كأنّما كان ظهور ديوان نزار رداً نسقياً على ظهور نازك الملائكة"، ومن المؤكد أنّ هذ التزامن جاء بمحض المصادفة، وبصرف النظر عن هذا التزامن فإنَّ نضج الأنموذج الكلاسيكي المدوّي (محمد مهدي الجواهري) الذي بلغ درجة مؤثرة في توجيه الرأي العام، وتحريك الشارع العراقي الغاضب في تظاهرات حاشدة، تمتد من بغداد وتسري شرارتها إلى بقية أنحاء البلاد من جهة، وعدم تخلي الروّاد أنفسهم من الشعر التقليدي من جهة ثانية، كان الرد النسقي الأكثر وضوحاً على عملية كسر النسق التي تمثلت بحركة "الشعر الحر" ونرى أنَّ كلاً من الجواهري والقباني شكّل ظاهرة نسقية منفردة، حملت كلٌّ منها راية من رايات الدفاع عن النسق، إذ مثّلت ظاهرة الجواهري مركزية الأنموذج الطرازي، ليس على المستوى الأدبي فحسب، وإنما على مستوى السلطة والمجتمع والمؤسسة الثقافية، كما مثّلت ظاهرة القباني مركزية الأنموذج الشفاهي الشعبي الغنائي، وكلا الأنموذجين كان يخاطب الذاكرة الجمعية للمجتمع، التي يمتزج فيها التاريخي والقيمي بعناصر الهوية، بينما بقيت مختلف تجارب الحداثة الشعرية نخبوية تخاطب طبقات خاصة من المهتمين والدارسين. وللحديث صلة...