لا أتحدّث عن ألغاز ولست مغرماً بالغموض والإبهام في الكتابة والكلام، والفكرة ببساطة شديدة أن أيّ بلد في العالم، في الغرب كان أم في الشرق، وصغُر أم كبر، يتحرك سياسياً في دائرتين داخلية وخارجية، ومن ثمّ تكون هناك تأثيرات على قراراته السياسية بهذا القدر أو ذاك.
تأتي التأثيرات في قرارات السياسة الداخلية بالمال والاقتصاد وبالقوة وإعمال النفوذ الفكري والثقافي، والديني والعرقي والمناطقي وهكذا. وهذا أمر قطعيّ لمسناه بالحسّ في بلدنا، وفي بلدان العالم من حولنا، يكاد من فرط وضوحه أن يُصنّف في خانة البديهيات.
الشاطر من البلدان والذكي الوطني من السياسيين، هو من يحصّن قراره السياسي، ويجعله سيادياً في الأمور كلها. وتحصين القرار السياسي وجعله سيادياً، يحتاج إلى جهود كبيرة، وإلى معرفة ودراية وتجربة، مع انفتاح على خبرات الجميع. أذكر من تجارب القرن المنصرم، جهود جوزيف بروزتيتو في بناء منظومة القرار السيادي ليوغسلافيا، بعيداً عن تأثيرات موسكو ومنظومتها الاشتراكية، التي اكتسحت قرابة نصف الكرة الأرضية يومذاك. وعلى الخطّ ذاته سار نيكولاي شاوشيسكو في النأي برومانيا بعيداً عن التبعية لموسكو، لصالح المزيد من الاستقلال في القرار السيادي الروماني. وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى كوبا على عهد فيديل كاسترو.
أما الصين فهي تجربة قائمة بذاتها حدوثاً وبقاءً؛ حدوثاً مع نزعة ماوسيتونغ للاستقلال بالصين، حدّ تأسيس منظومة للماركسية اشتهرت بالماركسية الصينية أو الماوية، تمييزاً لها عن الماركسية السوفياتية، واصراراً على الاستقلال الفكري والسياسي للصين. وبقاءً بحفاظ القادة الصينيين بعد ماو على نزعة الاستقلال هذه، ليس أمام موسكو على عهد الشيوعيين، بل أمام العالم أجمع، حتى والصين تتحوّل من الاقتصاد الاشتراكي إلى الاقتصاد الرأسمالي الإنتاجي، المسيّر من قبل الحكومة، وليس من الشركات واقتصاد السوق وبؤر الرأسمالية المتوحشة.
اوروبا إجمالاً كانت ولا تزال تعيش هذه النزعة مع اميركا، رغم أن الاثنين يشتركان في تكوين المنظومة الغربية، وكلنا يذكر المواجهة الصامتة التي احتدمت سياسياً بين فرنسا بقيادة الجنرال ديغول واميركا، وراحت تعبّر عن نفسها ثقافياً في إصرار فرنسي متواصل على مبدأ الثقافة الأوروبية، بل تمايز الثقافة الفرنسية، عن الثقافة الأميركية، إلى الحدّ الذي شهدت فيه فرنسا تياراً في حياتها الفكرية، يتحدّث صراحة عن مخاطر الغزو الثقافي الأميركي لاوروبا وفرنسا، بحيث صدرت كتب ومقالات كثيرة بهذا العنوان.
يعجبني أن أذكر من العرب السادات، وكيف ناور بين الاتحاد السوفياتي واميركا. كذلك برعت الجزائر بإسباغ خصوصية على سلوكها السياسي في وقتٍ ما، لا يلونها بمحاور العالم العربي ونزاعاته؛ وهذا بالضبط ما تفعله سلطنة عمان اليوم.
المراقب لكلّ هذه التجارب وكثير غيرها من حولنا؛ يلحظ أن أصحابها يتحركون بمعيار المصلحة الوطنية، وليس بالشعارات الرنانة الجوفاء خالية المحتوى، أو بالاطاريح والايديولوجيات الواهمة، التي تتستّر بمسميات جذابة، فيما هي تضيّع استقلال البلد، وتتوحش في سحق هويته الوطنية، وهدر ثرواته وراء الحدود.
هل يعني ذلك الدخول في صراع مع العالم، أو التنكر للانتماءات الدينية والمذهبية والإنسانية والقيمية، العابرة للحدود الوطنية؟ أبداً، إنما هي دعوة لوعي التفاصل والتواصل، على أساس مصلحة العراق الوطنية، وتحصين قراره السيادي!