ياسين النصير
لا تصلح النصوص التي كتبت في زمن ما لصالح شخصية أو وضع سياسي لزمن آخر، حتى لو احتوت نوى مستقبلية. كل نص مرتهن بزمنه، ومكانه، هذا لايعني الغاء التعالق النصي مع نصوص اخرى حذت حذو النص المعاصر، ولكن النصوص التي تجيّر لصالح شخص أو نظام، لايمكن إعادة إنتاجها حتى لو خلت من ذكر ذلك الشخص وذاك النظام. فللنص جينات تدل عليه حتى لو أخفاء المؤلف ببلاغة اللسان واللغة. كنصوص من يمجد الحرب، والنصوص الشوفينية التي تفضل جنسًا على الآخر، والنصوص التراثية التي قيلت بمناسبة مغايرة ويجري استعارتها لفقر الحاسة الإبداعية، أو يعاد انتاجها للتحضير إلى مناسبة مشابهة لها، فقد يحسبها البعض صالحة للوقت الحاضر، خاصة ما يُغنى منها وما يُكتب، لأنّها مضمرة بأغراضها الدفينة، حتى لو أخفت ذلك بالقوة. فالنص ابن زمانه ومكانه، ومتى ما تغيّر الزمان والمكان، فقد النص علاقاته الدلالية، كما أن التغيير في بعض حروف النص كي يكون صالحًا للحاضر عملية تلفيق تمهّد لما يأتي هكذا يلازم النص زمن هو لا يتحرك للأمام إلّا بقراءات تفكيكية تعيد تشكيلات دلائله المضمرة، وغالبًا ما تكون النصوص المعادة تمتلك على رؤية استشرافية، وليست أية رؤية متعلقة بشخصية أو حدث آني. كل النصوص التي يعاد تصورها نقديًا من جديد، تترك أتربة الماضي خلفها، كالخلد الأعمى يحفر دائما للأمام. وتهتم بنوى التربة التي تحفر فيها.
ما جعلني أقول هذه الشذرات القليلة من الأفكار، أن أي نص كتب عن حال شخصية أو حادثة ظرفية يحيا ويموت بالمتعلق بها، إن كانت تلك الشخصية أو الحادثة باقية أو مندثرة، ومن تعوّد على ديباجة مثل هذه النصوص من جديد، وبث الروح فيها، يبقى حبيس أطر معرفية قديمة، حين يجد نفسه لاعبًا تافهًا، لا يكتب إلا عندما تتغير الظروف، ليأتي بتلك النصوص ويغيّر أجزاء منها معتقدًا أنها تصلح لليوم أو للغد، فالنصوص اللاعبة مثل كتابها، يتلونون بأحبار النقد السريع، ويصبحون أصواتًا متحشرجة، لايجيدون الغناء، وهم الأكثر معرفة بأنفسهم، إنهم لم يكونوا يومًا في صف
التغيير.ما يحدث اليوم في الساحات العراقية، ليس مجرد حراك شعبي للتغيير، هذه محصلة مباشرة للحراك، تلمسنا رياحها العذبة الممزوجة بدماء الشبيبة، ولكن ما يحدث على مستوى الوعي هو جزء من التغيير الشامل، ليس تغيير السلطة فقط، بل تغيير طرق وأساليب الكتابة. وأعني بالتغيير الشامل هنا، النصوص التي بدأت كلماتها وصورها تولد في هذه الساحات، وتتحدث عن أبطال شباب يقتلون، وتجسد أبعادًا شعبية واسعة في التغيير، مما يعني أننا أمام ظاهرة معرفية لا يمكن تجاوزها، كما لا يمكن التنبؤ بأشكالها التعبيرية، فما يكتب الآن عنها ليس إلا البدايات المغيّرة للأشكال القديمة في الكتابة، إنها تمحو بقلم اليد واللافتة والدم والصور والهتاف "نريد وطنًا" كل الصور التي تحدثت عن النضال والثورات وما كتب حولها، ما يكتب اليوم يؤسس لوعي جديد بأهمية النص المقبل، بل يزداد حضور هذا الوعي في المستقبل، على العكس من تلك النصوص التي مجدت شخصيات دكتاتورية، وحروبا عبثية، ثم انتهت إلى مزبلة التاريخ، ما يُكتب اليوم هو نواة للنص الإشكالي، الذي لا يتعلق بالشخصية ولا يمثل حدثًا خاصًا، بل يجسد الصيرورة الوجودية لشعب عرف تلاوين التاريخ والثورات والانقلابات والتمردات، ووجد نفسه هائجًا في عراء البلاد وساحاتها، متحديًا اساليب القمع ليثبت وجوده من جديد. ولكن هذه المرة، والتي بدأ فيها أنه قائد نفسه، يخلق لغة جديدة لنصه المقبل، ومن هنا، أجد أن ما يكتب عن هذا الحراك، سيبني ملاحم جديدة، تغنيها الدراما، وفنون التشكيل، والموسيقى، والغناء، والكرنفالية، وهوسات العشائر، وصيحات ونداءات الولادات الجديد للأمهات الشابات، نصوص جماعية، بهوية وطنية، وبصيغة حداثية عراقية بامتياز.