ترجمة / انيس الصفار
كثيراً ما يشار الى العراق بأنه مولد الحضارة، بيد أن هذا التاريخ كله استحال اليوم في مدينة الموصل، وهي ثاني أكبر المدن فيه، الى نحو ثمانية ملايين طن من الركام والخرائب التي خلفها الصراع الطاحن. في هذا المشهد الذي يذكر الناظر بيوم القيامة تقبع انقاض 5000 منزل وبناء. بعيداً .. من وراء عشرات المساحات المعزولة بأشرطة التحذير الصفر المكتوب عليها: “قنبلة غير منفجرة” التي يتلاعب بها نسيم الصباح الجاف .. يلوح شبح وحيد. قدماه تثبان بخفة مثل قدمي راقص وهو يناور متحاشياً جبال الانقاض والركام وقضبان الحديد الملتوية والزجاج المهشم، مجتازاً حي النبي جرجس في طريقه الى مدرسة الاخلاص الابتدائية. اسمه أسامة، وعمره 11 عاماً .. يرفع الصبي يده ليشير الى غرفة صفه القديم في المرحلة السادسة الابتدائية.
ها هو قد جلس على مقعده القديم والمنضدة، هناك حيث كان قبل سنوات خمس يتمتع بدراسة مواضيع عديدة متنوعة متكاملة. يقص علينا أسامة كم شعر بالحزن هو واصدقاؤه حين اقفلت المدرسة بدخول “داعش”، يوم احتل التنظيم الارهابي المدينة في حزيران 2014. بعد سقوط النظام الدكتاتوري الذي كان يحكم العراق في العام 2003 ارتفعت آمال العراقيين بأن يروا بلداً جديداً يعاد بناؤه على أسس الديمقراطية وحقوق الانسان، بيد أنهم سرعان ما اكتشفوا أن بناء الديمقراطية ليس أمراً سهلاً. في العام 2014 وجدوا انفسهم يواجهون شكلاً جديداً من اشكال الدكتاتورية في ظل نظام “الخلافة” المزعومة .. خلافة تنظيم “داعش” التي استولت على مدينة الموصل. هؤلاء اللاعبون الجدد وعدوا الناس بالامال والرفاه والحرية، ولكنهم بدلاً من ذلك اعادوا الموصل والجيل التالي من ابنائها الى زمن العصور المظلمة.
أجبر نحو مليون انسان من أهالي الموصل على ترك مدينتهم جراء ضغط ظروف العيش المتردية وانعدام فرص العمل بالاضافة الى السياسات القمعية والفظائع المروعة التي كان هذا النظام ينزلها بهم.
أما الأطفال مثل أسامة فقد قدر لهم أن يروا مدارسهم مغلقة. ذلك أن الحكام الجدد فرضوا آيديولوجية جديدة بالكامل وحظروا تدريس مواضيع مثل التاريخ والفلسفة والموسيقى والفنون وركزوا بدلاً منها على تدريس تفسيرات صارمة قاسية للشريعة الاسلامية الى جانب التدريب على السلاح. أرغم المدرسون على الالتحاق بدورات تدريب خاصة، ومن امتنع عن الاذعان وإعلان الطاعة والولاء للنظام الحاكم الجديد تعرض للتعذيب وما هو اسوأ وأفظع.
خلال عملية مسح شملت 451 اسرة في غرب الموصل وجد أن 88 بالمئة من الاطفال كانوا ملتحقين بالدراسة قبل مجيء “داعش”، ولكن من بعد ذلك لم يعد يداوم سوى اثنين بالمئة فقط من ابناء الاسر المتبقية. والسبب هو أن جميع الاسر التي بقيت في الموصل بعد حزيران 2014 آثرت ابقاء اطفالها خارج مقاعد الدراسة حرصاً على سلامتهم وخوفاً من تعرضهم للتعبئة العقائدية.
تشير دوائر التعليم في محافظة نينوى، التي تقع مدينة الموصل ضمن نطاق اعمالها الى أن ما يقارب 130 مدرسة قد نالها التدمير الكامل خلال المعارك، وأن 350 مدرسة اخرى تحتاج الى اعادة تأهيل. بيد أن برنامج “لنعلم طفلاً”، وهو برنامج عالمي تديره مؤسسة “التعليم قبل كل شيء”، عملت بالشراكة مع منظمة اليونسكو في العراق لتقديم المساعدة للاطفال الذين يواجهون عقبات تحول دون التحاقهم بالتعليم من بينها الصراعات.
تعمل مناهج “برنامج التعليم المعجّل” على تكثيف المواد الدراسية لثلاث سنوات وتقديمها في سنة واحدة من اجل تمكين هؤلاء الاطفال من العودة الى تيار التعليم بنجاح.
تقول “ستيفانيا جيانيني” مساعدة مدير عام التعليم في منظمة اليونسكو، موضحة: “شراكتنا مع برنامج لنعلم طفلاً في العراق لا تنحصر في مد ايدينا الى الاطفال الذين تركوا الدراسة، بل ايضاً توفير بيئات تعليم آمنة لهم ومدرسين مدربين مع بناء نظام تعليم مرن ذي قدرة على التكيف.”
تمضي جيانيني مستطردة: “على مدى ثلاث سنوات تمكن المشروع من الوصول الى 37 ألف طفل ممن تركوا الدراسة، وتدريب اكثر من 1000 مدرّس وانشاء 346 مركزاً لبرنامج التعليم المعجّل، كما اعاد المشروع تأهيل اكثر من 100 مدرسة. ومن خلال الشراكة نجحنا في تقديم الدعم للحكومة من اجل تطوير الأطر الهيكلية لمناهج التعليم الوطنية الى جانب تطوير ستراتيجية تدريب المدرسين المحليين. ومن خلال الارتكاز على هذه المنجزات تهدف المرحلة الحالية لبلوغ 150 ألف طفل من تاركي الدراسة كثير منهم من المهجرين داخلياً، علاوة على تحسين قدرات كل من لهم علاقة بعملية ايصال التعليم الشامل بمستوى نوعي عال. وبفضل الالتزام الثابت طيلة عقد من الزمن غدت هذه الشراكة مثالاً مجسداً لإمكانيات نجاح الاساليب الراسخة المستدامة في اوضاع الازمات الطويلة المعقدة.”
أتيحت ايضاً للاطفال الذين يضطرون للعمل خلال أيام الاسبوع العادية من اجل إعانة اسرهم حصص دروس في أيام عطلة نهاية الاسبوع وفق “برنامج التعليم المعجّل” لتكون حبل نجاة تعليمي وتوجيهي لهم.
في منتدى الأمم المتحدة الاجتماعي لحقوق الانسان الذي انعقد في جنيف خلال الشهر الماضي قالت الشيخة موزة بنت ناصر، رئيسة ومؤسسة “التعليم قبل كل شيء” موضحة: “لقد اسفرت النزاعات المسلحة طويلة الأمد عن دمار لا سبيل لإصلاحه في انظمة التعليم. واسمحوا لي أن اوضح هذا الأمر، فأنا لا أعني الأضرار الجانبية غير المقصودة. ما أعنيه هو الهجمات المتعمدة والمدروسة على نظام التعليم. عن تلك الهجمات المتعمدة على حقوق الانسان الاساسية .. فحين ينعدم التعليم تنعدم الأمم، وما لم نعكس اتجاه هذه الموجة سوف نبقى ندفع هذا الثمن
الجسيم.”
إعادة البناء وازالة الالغام والقنابل سوف تستغرق من الموصل عقوداً، والعالم لن يتمكن من محو ما حدث في العراق او أن يعيد السنين التي ضاعت من أسامة والاطفال الاخرين، ولكن من خلال العمل الجماعي المشترك، كذاك القائم بين مؤسسة “التعليم قبل كل شيء” ومنظمة اليونسكو، بإمكاننا أن نجعل مستقبلهم اكثر اشراقاً.
بادي داولنغ / عن صحيفة الاندبندنت