حسن العاني
مع بداية العقد الثمانيني من القرن الماضي، بلغ الاستاذ (ف.ف) – رحمه الله – الثالثة والستين من العمر فأحال نفسه على التقاعد، وكان الرجل الذي كنا نخاطبه بكنيته (ابو عماد) واحداً من افضل مدراء المتوسطات في تربية الكرخ، حيث جمع بين الاداري الناجح وبين صفتي الاب والتربوي الحريص على مصلحة الطلاب، زيادة على كونه تعدى في علاقته مع المدرسين حدود الزمالة الى حدود الصداقة، واعتقد ان هذه الميزات الايجابية هي التي كانت وراء حماسة المدرسين واخلاصهم في اداء وظيفتهم على افضل وجه من ناحية، ووراء نِسَب النجاح العالية للطلاب من ناحية اخرى..
في آخر يوم حضر فيه الرجل الى المتوسطة ليودعنا لم يمتلك اكثرنا قوة وجلداً وصبراً، منع نفسه من البكاء، فيما تظاهر الطلاب داخل المدرسة معترضين على تقاعد الاستاذ (ف) ومطالبين ببقائه، ولم يهدأ غضبهم الا بعد ان اجتمع بهم المدير والقى كلمة متوازنة بين لغة الانظمة وقوانين الدولة في قضية التقاعد، وبين لغة العواطف الجياشة، ووعدهم بأنه سيزورهم باستمرار ويكون قريباً منهم، وفيما اتفق المدرسون على اقامة دعوة غداء تكريمية للرجل، كان الطلاب بدورهم قد اتفقوا على شراء هدية، وهكذا غادر المدير المتوسطة مودعاً بآيات الدموع والمحبة...
المتوسطة الان من غير مدير، والمشرف التربوي في مبادرة منه عقد لنا اجتماعاً قال فيه "سنقوم بممارسة ديمقراطية وذلك بأن نفتح باب الترشيح امام الجميع لمنصب المدير، مع شرط واحد ان لا تقل خدمة المرشح عن 12 سنة، وهذا العدد من السنين ليس كبيراً كما يتصور بعضنا، ولكنه كفيل بجعل المرشح يمتلك شيئاً من الخبرة التعليمية والادارية، وقدراً كبيراً من الشعور الابوي تجاه الطلاب..."
الحق ادهشنا الرجل وسحرنا وهو يتحدث عن معنى المسؤولية التي تتضمنها الديمقراطية لم نكن نعرفها من قبل... وهكذا اجتمعنا، وكان عددنا 23 مدرساً وقد رفع الاستاذ (ن) يده ليكون اول المرشحين، اعقبه الاستاذ (س) ثم الاستاذ (ب)، حتى اذا رفع الرابع يده وهو الاستاذ (ع)، وكان بالاساس يشغل (معاون المدير) انسحب المرشحون الثلاثة اكراماً لشيبته، عندها قال المشرف "مع ان المرشح (ع) يفترض ان يفوز بالتزكية، ولكن يجب ان يحظى بموافقتكم" ولم يعترض احد منا باستثناء الاستاذ (ح) حيث قال "في الحقيقة لا اعتراض على الاستاذ (ع) ابداً، ولكنه حسب علمي على ابواب التقاعد واوضاعه الصحية تعبانة، وهذا سيجعلنا قريباً امام مشكلة البديل الجديد".. لم تلقَ تلك الملاحظة اذاناً صاغية.. وبذلك تولى الرجل الادارة، ولم تمض اكثر من اربعة اشهر حتى اشتد عليه المرض، ولم يعد يصل الى المدرسة اكثر من يوم في الاسبوع، وقد ارتبك وضع (الملاك التدريسي) وانعكس على الطلاب، وبدأت ملامح الفوضى بالظهور.. وكنا نزور الرجل الذي بلغت خدمته الوظيفية 40 سنة ونطلب منه برجاء احالة نفسه على المعاش اذْ لم يبق امام بلوغه السن القانونية للتقاعد سوى 10 اشهر وهو يرفض بحجة عدم وجود بديل افضل يخدم المتوسطة والطلاب الذين بلغت نسبة رسوبهم في ذلك العام 87 % ودفعت مديرية التربية الى معاقبته ومعاقبة المشرف التربوي الذي اختاره...