المناهل العربية.. بعضٌ من أصل الموسيقى العالمية

الصفحة الاخيرة 2019/12/04
...

حاوره في بغداد: حسن جوان
أول عربي يقود اوركسترا أوروبية، وأول قائد عراقي للفرقة السمفونية الوطنية بعد أن كانت قيادتها حكراً على الفنانين الأجانب. قائد أوركسترا ومؤلف موسيقي وأستاذ في تدريس مادة التأليف وقيادة الأوركسترا، حاصل على شهادة ماجستير في التأليف الموسيقي: جيبريان بوربيسكو في بوخاريست عام1985. 
 في العام 1989عين قائداً للفرقة السيمفونية الوطنية العراقية ويعتبر أول قائد عراقي  بعد أن كانت الفرقة السيمفونية تحت قيادة أجنبية منذ تأسيسها. بعد مغادرة جميع العازفين الأجانب على اثر الغزو العراقي للكويت إبان عهد  النظام السابق، استمر بالعمل مع الأوركسترا بكادر عراقي فقط إلى وقتنا الحاضر. انه المايسترو محمد امين عزت الذي يتحلى بطاقة  مثابرة فريدة وروح التحدي منذ سنواته المبكرة في طريق الدراسة في رومانيا، رغم كل الحواجز والموانع التي كان من الممكن أن تعترض طريقه، أصر ان يكمل  درس الموسيقى في رومانيا بتفوّق ونال شهادة الماجستير منها وعاد الى بلده العراق ليبدأ ببناء رصين ومستمر للفرقة السيمفونية على مدى عقود وسط ظروف غاية في الصعوبة والتقلبات. التقيناه في بغداد فكان هذا الحوار الخاص بـ "الصباح"
*تنتمي الأعمال الموسيقية الكبرى الى التكامل مع جميع الفنون والآداب، ويقاس مستوى ثقافات الشعوب بموازاة تطورها . لماذا لم تنضج لدينا فكرة موازية بهذا المستوى من الإنتاج والتلقي؟
- لم يواكب تطور الموسيقى لدينا تطورات العلوم الأخرى بكل الحقول لدينا من الأساس، حتى في فترة نضوج العلوم وبروز علماء قدموا إنجازات كبيرة رائدة آنذاك وبحثوا في المعارف في العهد العباسي، بقيت الموسيقى محصورة ضمن حيز معين وخاص في اغلب مساحاتها وكانت تعتمد على مقامات محددة. ورغم اشتغال واجادة اغلب علماء المسلمين في الطبيعيات والرياضيات للعزف وجانب من الموسيقى الا انها بقيت كما هي دونما تطوير كبير اسوة ببقية العلوم. مع هذا فقد انتقلت الى أوروبا مع معارف كثيرة فقام الاوربيون هناك بتطويرها وربطوها بشكل عضوي بالطقوس الكنسية والدينية وامتزجت لاحقاً بالتراتيل التي سبق لها ان كانت مجردة من الموسيقى بحكم التحريم في الكنائس القديمة في القرون السابقة لهذه المرحلة. وجرت نقلات عديدة في البناء الهارموني ونمو  كبير في العصر الكلاسيكي لاسيما بعد الإضافات التي تمت على يد فيليب باخ الذي اسهم كثيراً في دفع النظام الموسيقي نحو تجليات الموسيقى السمفونية التي تلت زمنه. بقي يجب ان اشير الى أنّ التطور في الموسيقى في عصورها جميعاً لم يكن أحادياً بل شاملة وموازية تماماً لتطور المسرح والشعر والرسم وبقية الآداب والفنون وهذا يسهّل الفهم على تفسير أسباب حزمة التلاقحات لتلك النهضة الشاملة.
 
*هل يمكن القول هنا أن الموسيقى اوروبياً لاذت من التحريم  بالدين والكنيسة وتطورت لاحقاً واستقلت بينما لاذت الموسيقى العربية بالعلم والعلماء وتوقفت بعدها عن التطور مع نهاية النهضة العباسية مثلاً؟
- نعم يمكن قول ذلك. أذكر هنا أنّ دراستنا الاكاديمية للموسيقى كانت تذكر ان اصل الموسيقى العالمية الحالية هي من منهلي الموسيقى العربية والبيزنطية. الآن رجع الاقتران الموسيقي بالعلم عالمياً وبدأت الموسيقى السمفونية الآن بالرجوع الى الفطرة من خلال استقدام عازفين من الجبال او البيئات الفطرية على خلفيات بناء اوركسترالي كامل.. 
 
*وهل يمكن لآلة موسيقية بدائية او صوت فطري ان يلتحق بطبقات اوركسترالية معقدة؟
- طبعا يمكن، لقد تطورت الموسيقى الحديثة الآن  وصارت قادرة على احتواء كل شيء وهي تتمتع بقدرات كبيرة على تطويع كل شيء بعد ان بلغت ذروتها في عصرنا. هناك الآن مؤلفات جديدة تقوم على آلة تراثية من بيئة ما ويقوم المؤلف ببناء تأليفه عليها، وهنالك جذور لهذا التأليف لدى بيتهوفن مثلا في مؤلفاته الريفية، الا انه يقوم بتقديمها عبر تقنياته وعلومه الموسيقية بطريقة تتجاوز ريفيتها في ما بعد وقد تتجرد كثيرا في النهاية. 
 
*كنت أصغر مايسترو قاد الفرقة السيمفونية في رومانيا، كنت في الرابعة والعشرين من عمرك وهذه سابقة لدى هذه الفرقة العريقة، هل تصف لنا ظروف هذه التجربة الفريدة؟
- في رومانيا درست التأليف الموسيقي في السنة الأولى بانتظار دراسة قيادة الأوركسترا التي تتاح للدارسين بين فترة وأخرى، لكن سرعان ما باشر الأستاذ "يوسف كونته" المشرف على دراسة قيادة الأوركسترا فالتحقت فورا به لاكمل الدراستين معاً وتخرجت كمتخصص وقتها. الأستاذ "كونته" ايضاً كان مدير الأوركسترا وقائداً لها في الإذاعة والتلفزيون الروماني آنذاك، وحدث انني أكملت دراستي وسط تنافس شديد من طلبة يعدّون عباقرة في مجال دراستهم، لانهم خلاصة الخلاصات من المتقدمين لهذه الدراسة ويختارون كاربعة عشر طالبا من بين حدود 3000 متقدم، ويمكن تخيل نوعية والاختبارات وكمية التركيز على مثل هذا العدد القليل من الدارسين. بعد تخرجي دعاني استاذي ذات يوم ان احضر الى الإذاعة والتلفزيون الروماني بدون ان يوضح السبب، لبيت دعوته لدخول ذلك المبنى المهيب في تلك الأيام فوجت استاذي اثناء التمرين مع الفرقة السمفونية باعدادها الهائلة بالإضافة الى الكورال، فجلست انتظر في غرفة الكونترول فدعاني الى الانضمام اليه فقام بتقديمي الى الفرقة الموسيقية بكلمة "زميلي محمد" وليس تلميذي.. "الذي سوف يقودكم لعزف السمفونية السابعة!" وفورا اوعز بتهيئه النوطات والمباشرة بالتمرين. اظن ان هذا كان احرج موقف مررت به في حياتي كلها، لكنني تماسكت وقدمت حينها اول حفل رسمي بحضور الجمهور وليس تسجيلا، وكان جمهوراً واسعاً حضرته الممثلية الدبلوماسية العراقية ايضاً في ذلك الوقت وقد منحني القائم باعمال السفارة زمالة دراسية لمدة سنتين لاتمام الدكتوراه حينها لكن ظروف عودتي الى العراق بعدها لاتمام اوراقي والعودة للزمالة تعرقلت جدا، وبدلاً عن تسلم أوراق الزمالة تسلمت أوراق التجنيد الالزامي لالتحق بعدها الى مركز التدريب العسكري! وهكذا ضاعت الفرصة النادرة تلك.. 
 
*متى تسلمت قيادة الفرقة السمفونية العراقية؟ 
- في العام 1985 وبعد عودتي النهائية تلك كان قائد الأوركسترا اجنبياً متعاقداً مع الفرقة العراقية، وفي عام 1989 انتهى التعاقد معه وكلفني الأستاذ منير بشير بقيادة الفرقة وبناء فرقة موسيقية عراقية دون الحاجة الى الاستعانة بالخبرات الأجنبية بعد انسحاب حوالي80 بالمئة من العازفين الأجانب على اثر غزو العراق للكويت ومغادرتهم العراق بشكل جماعي، وانا اقود الفرقة بكوادر عراقية منذ ذلك الوقت وحتى الان...
 
*من الملاحظ ان الحضور النسوي في الأوركسترا العراقية قليل نسبياً، الى ماذا تعزو ذلك؟
-من وجهة نظري اننا في العراق نمتلك عدداً من العازفات اكثر من غيرنا، فمن الناحية التطورية كانت نسبة النساء في الأزمنة الماضية تكاد تكون معدومة من بين العازفين، لكن بعد تطور الاكاديميات وانفتاح الدراسات اصبح للمرأة حضورها ومشاركتها الواضحة ..
*كم عازفة لديكم الآن على سبيل المثال في الأوركسترا العراقية؟
- بلغن اثنتي عشرة امرأة وهو عدد لا باس به، أي ما يقترب نسبياً من عشرة بالمئة من العدد الكلي للعازفين وانا شخصيا كنت دائم التشجيع لقبول المزيد من النساء الموهوبات للعمل معنا..
*هل تعتقد بوجود موسيقى عربية خارج الغناء، أم ان الإرث العربي هو ارث غنائي فقط؟
- لا وجود لمقطوعات موسيقية  خارج الغناء في التراث الموسيقي العربي، الموسيقى بشكلها المستقل وصلتنا عن طريق المعاهد الدراسية التي انتشرت عبرها ثقافة المقطوعة الموسيقية وتطورت لاحقاً، وهذا يشمل جميع الموسيقى العربية بما فيها المصرية..
 
*هل نالت الفرقة الموسيقية نصيبها من العناء والمضايقات خلال فترات تقلبات الأوضاع في البلد في السنوات الأخيرة او ما قبلها؟
-بكل تأكيد، لقد عانينا الكثير وشهدنا مضايقات واهمالا قديما يمتد من عهد النظام السابق  وحتى الان، لم نسلم دائماً من نعوت تصل الى الإهانة في الزمن السابق باعتبارنا موسيقيين.. غجر.. في نظر المسؤولين، إذ كان جلّ اهتمامهم وكل ما تعنيه الموسيقى لديهم هو الأناشيد والاغاني التعبوية التي تمجد مغامرات " القائد".. كما لم نحظ باهتمام يليق بالثقافة العراقية الرائدة في ما بعد ذلك الزمن الصعب، أي بعد التغيير، وما بين هذا وهذاك عانينا الامرّين وصادفنا من المتاعب وسوء التقدير ما يصل الى مستوى الخيال. سنوات  وعقود من التقلبات السياسية والاجتماعية، وتحولات في الذائقة وصناعة الوعي او ربما تدحرجه، كنا خلال تلك التقلبات نقاوم فكرة التغييب او الاندثار القسري او قلة الدعم والاهتمام.
 
*على ذكر فكرة الثقافة العراقية، من الملاحظ ان غالب الفرق السيمفونية في الدول المتقدمة او الراعية للفنون ترتبط ادارياً بالقصر الملكي او رئاسة الجمهورية في هذا البلد او ذاك وليس بوزارة ثقافة او غيرها، هل انعكست امزجة الأشخاص وتباين الأنظمة والوزارات على أداء الفرقة السمفونية العراقية؟
-بلا شك، رغم انني لا اريد ان اتطرق الى هذا الموضوع بشكل مباشر او شخصي، لكن كل الفعاليات الثقافية والفرق الفنية  التي ترتبط إدارياً بالبنية الثابتة للدولة مثل القصر الملكي او رئاسة الجمهورية تكون حتما اكثر ديمومة ورصانة واستقلالاً، كما انها تعدّ لبنة أساسية في بنية الدولة لايمكن ان تتعرض للتغيير مع تغير الوزير او الأمير او غير ذلك. 
 
*هل تتمنى ذلك؟
- أتمنى ألّا اطلب ذلك لكني أتمنى كل ما هو لائق بالموسيقى العراقية وبمجمل الثقافة لبلد ينظر اليه العالم كترقب بمنجزاته الإبداعية. العالم ينظر الى بلد مثل العراق بلد الرافدين وشعلة الحضارة الأولى ورافد الدنيا بالجمال على مر التاريخ.. ينظر اليه بعين الاكبار والاحترام ويجب علينا ان نؤدي امانته جميعا افراداً ومسؤولين.