جواد علي كسّار
واحد من أبرز العناصر المشتركة لخطاب النجف الأشرف إلى القيادات السياسية في بغداد، هو الدعوة لتحصين القرار السياسي السيادي، وحمايته من تأثيرات هذا الطرف أو ذاك. ففي خطبة الجمعة الأخيرة كما الخطب التي سبقتها، تحدّثت المرجعية بوضوح، عن ضرورة أن يبقى القرار السياسي بعيداً عن تدخلات الآخرين، والأهمّ من ذلك ان خطاب المرجعية إلى استقلال القرار السياسي السياديّ العراقي، وصيانته من أشكال التبعية، جاء في المرّات كلها مطلقاً دون قيد، وعاماً دون تخصيص أو استثناء، يشمل الجميع دون فرق بين دول الجوار والإقليم والعالم.
ومع ان استقلال القرار العراقي وحمايته من التدخلات، هي قضية وطنية عامة لا تحتاج إلى مناسبة، إلا أن تركيز المرجعية عليه بالتزامن مع الأزمة الحالية، يكشف عن أبعاد مهمة في الواقع العراقي، أبرزها أن من أهمّ أسباب الحركة الاحتجاجية الحاضرة، هو الشعور المرعب لدى الجماهير بانتهاك هويتها الوطنية، وإحساسٍ بجرح عميق من سماح البعض، لتعرّض كرامة العراق لتدخلات رعناء شائنة في أموره السياسية، وفي ثرواته ومؤسساته، وكأنّ البلد وشعبه يعيش تحت الوصاية، لا يستطيع الحاكم فيه أن يشرب الماء إلا بإذنٍ من وراء الحدود، على ما ذكرت واحدة من صحف الإقليم متبجّحة!
المرجعية التقطت المعاناة الناشئة من هذا الجرح العميق، الذي أسس له رعيل من السياسيين العراقيين تحت ضغط الظروف والذرائع والمصالح الشخصية وضعف الوطنية، أو بحجج أيديولوجية واهية ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تصمد أمام الحجة والبرهان، لكي تحذّر من هذه التدخلات، وتبعاتها الوبيئة، والمرجعية لا تعبّر بذلك عن تأييدها لمطالب المحتجين وحسب، بل تعبّر أيضاً عن ما تنطوي عليه سريرة الملايين الصامتة من رفض واستياء لهذه التدخلات المشينة.
الأهمّ من ذلك برأيي ان مطالبات الناس الآن بقطع دابر التبعيات، وتركيز خطاب النجف الأشرف على حماية استقلال القرار السيادي، والتقاء الوجدان الشعبي للملايين الصامتة على هذه النقطة؛ هذه المعطيات مجتمعة تمنحنا فرصة تأريخية بمعنى الكلمة، لتحرير القرار العراقي من تدخلات الآخرين وتبعياتهم، قد لا تتكرّر في الأفق القريب، ما يدعو إلى بذل جهود استثنائية، لكي يكون القرار الوطني العراقي بعيداً عن التأثيرات المخربة للآخرين.
قد يتذرّع بعضهم بالعولمة وتأثيراتها في السيادات الوطنية؛ لهؤلاء نقول ان التدخلات في القرار السيادي التي يعاني منها العراق الآن، لا شأن لها بالعولمة. وقد يتفلسف بعضهم بأن بعض التدخلات إيجابية، لحلّ الاختلافات وأحياناً الصراعات، أو لدرء بعض الأخطار؛ نذكّر هؤلاء بأن لا أحد تدخّل بالشأن العراقي إلا بدافع مصلحته، وان مصلحته هي المقدّمة على مصلحة العراق، وهذه قاعدة تعمّ الجميع دون استثناء.
تبقى مسألة لابدّ من الإقرار بها، مؤدّاها ان التدخلات الخارجية مثلها كمثل الأمراض في الكائن الإنساني، فالإنسان يُبتلى بالمرض من واقع فقدانه للمناعة، وإذا أراد أن يحصّن نفسه من الأمراض، ينبغي له أن يُعزّز مناعته الذاتية. هكذا الحال بالنسبة إلى البلدان، فمن يمكّن الآخر من التدخّل بشأنه، هو نحن، وبغياب الحصانة الوطنية الداخلية، تنفد تدخلات الآخرين، وتنشأ الارتباطات المشبوهة، ومختلف أشكال التبعية!