جواد علي كسّار
لست متأكداً من تأريخ لوحة الفنان الروسي يولي إبراموفيتش، وفيما إذا كان قد نشرها وستالين لا يزال على قيد الحياة، أم انه فعل ذلك بعد وفاته مُباشرة. فحسب معلومات الفيسبوك وتويتر، فإن لوحة إبراموفيتش عن وباء العسكرة نُشرت عام 1953، في السنة نفسها التي توفي في مطلعها ستالين، لكن أياً ما يكون الأمر، فمن المؤكد أن هذه اللوحة لا تزال تعبّر عن حقيقة صارخة، تكشف الآثار المدمّرة للعسكرة على حياة الناس وواقع البلدان.
يظهر في اللوحة عسكري بزيّه الكامل يتصدّر واحدة من طاولات مطعم فخم، وخدَمة المطعم يتسابقون بأجمعهم في تقديم الخدمة له بابتسامة وزهوّ، ويتراكضون من حوله بألوان الأطعمة والأشربة التي تتكدّس على الطاولة أمامه، في حين تظهر في اللوحة ذاتها بقية الطاولات وقد أُهمل أصحابها، لم يبالِ بهم أحد، وذلك في كناية ذكية على أن العسكرة تستقطب النفقات جميعاً، وتلقف ثروات البلد وتبتلعها، في مقابل إهمال الصحة والتعليم والسكن والنقل، وتعطيل الثقافة والترفيه والفنون والجوانب الجمالية والذوقية؛ هذه الجوانب التي تبعث على استرخاء الحياة، وترسل السكينة في النفوس!
ما أعادني إلى هذه اللوحة الخلاف المستديم الذي تحوّل إلى شبه صراع داخل حلف شمال الأطلنطي، بين اميركا وبقية الأعضاء لاسيما الأوروبيين. فمن ثقافتنا السياسية العامة نعرف أن الناتو تأسس في نيسان 1949، عندما انطلق الحلف باثني عشر عضواً، التحقت بهم تركيا واليونان عام 1952، ثمّ ألمانيا الاتحادية عام 1955، ليستقر العدد اليوم عند (28) دولة، وباستثناء اسبانيا فقد التحق أغلبها من المنظومة الشرقية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.
يدور الصراع حول حصة كلّ عضو في تمويل الحلف الذي يصل إنفاقه السنوي الإداري والمكتبي العادي إلى قرابة ملياري دولار، ويخطّط لكي ينفق على الدفاع (400) مليار دولار! والخلاف حول التمويل ليس جديداً، بل تعود بواكيره الأولى إلى خمسينيات القرن الماضي، لكنه احتدم في ثمانينات القرن العشرين، حين راحت اميركا على عهد الرئيس الجمهوري رونالد ريغان ووزير دفاعه الكسندر هيغ، ثمّ كاسبر واينبرغر، تحثّ الأوروبيين على زيادة مساهماتهم في تمويل نفقات الحلف.
الحقيقة لم أكن أعرف إلا قبل عشر سنوات فقط، بأن إنفاق أي عضو من أعضاء الحلف خاصة الأوروبيين، لم يكن يزد على 1 % فقط من الناتج الإجمالي القومي، وأن مركز الثقل في الإنفاق كان على عاتق اميركا، حيث بلغ بحسب بعض التقارير 70 % من مجمل ما ينفقة الحلف. من هذا المنطلق راحت واشنطن تمارس ضغطاً على بقية الأعضاء خاصة الأساسيين، لكي تصل مساهماتهم بالحلف إلـــى 2 %، وقد نجحت هذه الضغوط فعلاً في رفع إنفاق كندا والأعضاء الأوروبيين إلى 1.5 %، على أمل أن يصل عام 2024 إلى 2 % لجميع الأعضاء، لكن يبدو أن هذا لم يقنع ترامب، الذي ذكر صراحة أن اميركا تنفق واوروبا تستفيد دفاعياً، وهذه معادلة لن تدوم، وترامب لا يُجامل!
ننتقل الآن إلى موضع الشاهد من كلّ هذه القصة، وهو ما يرتبط ببلدنا. اميركا كانت تنفق لمواجهة الاتحاد السوفييتي، وقد أسقطته بعد أن عجز عن مواكبة اميركا في التسلّح، فأرهقه الإنفاق، وعطّل نموه الاقتصادي، الذي انعكس أزمة اقتصادية سياسية اسهمت في انهياره. واميركا تنفق على اوروبا دفاعاً عن مصالحها، لكن ماذا جنينا نحن من العسكرة الباهظة التي عاشها بلدنا منذ عام 1980 حتى اليوم؟ العسكرة كبيت النار تلقف كلّ ما يصل إليها، وهي بعد ذلك تنادي: هل من مزيد! واليوم تزيد موازنة العسكر في بلدنا على 20 % بين الدفاع والداخلية، فماذا يبقى لبقية المرافق؟ ألا ينبغي أن نعيد تأسيس المسار بالتحرّر من العسكرة وتبديدها للثروات، كما فعلت بلدان قبلنا على رأسها اليابان وألمانيا، والصين بعد ماو؟ ثم لماذا نذهب بعيداً، وتجربة البرازيل على عهد داسيلفا بين أيدينا، حيث قلص الجيش ونفقات الدفاع إلى أدنى حدّ، مع أن البرازيل هي البلد السادس في العالم من حيث المساحة!