ثراء!

الصفحة الاخيرة 2019/12/16
...

 جواد علي كسّار
كلّ من يلتقي به يصفه بأنه إنسان موسوعي، ولا غرابة وهو يجيد احدى عشرة لغة، ومع ذلك فقد عاش مع العربية في محنة، إذ يذكر أنه تعلّم الفرنسية لأنّ العربية ممنوعة عليه في المدارس، وبعد الاستقلال كان بلده الجزائر قد حصل على منحٍ لجميع البلدان، لكنه لم يختر أميركا أو غيرها من عواصم الغرب، بل اختار دمشق لتعلّم العربية، وحين وصلها سجد على أرض المطار شكراً لله على هذه الغنيمة، حيث مكث هناك مدّة تعلّم بها العربية.
عزّز عربيته أكثر في مهمة أمضاها في موريتانيا، بلد المليون شاعر، حيث يذكر أنه شعر حين التقى بالعرب القدامى في هذا البلد، وكأنه عاش في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام.
ظهرت له من خلال اللغات التي يجيدها؛ من القديمة اليونانية واللاتينية والكنعانية والعربية والعبرية، ومن الحديثة الفرنسية والانكليزية والأسبانية والألمانية والروسية؛ ظهرت له عدّة آراء في اللغة العربية، قد تستبطن انحيازاً لولا أنه أشادها على أُسس معرفية وبراهين علمية، عززها بقاموس يقع في عشر لغات، ضمّنه مجموعة من آرائه ونظرياته، في طليعتها نظرية اللغة الأولى، وانّ العربية هي أيسر لغات العالم، والأهمّ من ذلك أنها اللغة الابتدائية أو الأولى أو التأسيسية.
هناك فصل آخر هو على غاية من الأهمية في حياة هذا الرجل، هي علاقته بالمفكر الحضاري الجزائري مالك بن نبي، يقول عنها نصاً: يومها دخلت عليه عند الساعة العاشرة صباحاً، وعند الساعة الواحدة طلب لنا الطعام، وعند السادسة ذهبت معه إلى بيته، وبتّ معه، ولم أفارقه منذ ذلك اليوم إلى يوم وفاته، كنت أبيت مرتين في الأسبوع. هكذا بدأت المسيرة الفكرية بين رشيد بن عيسى ومالك بن نبي، إذ يقول ابن عيسى: كان مالك ولادّاً للأفكار، يعلمنا كيف نفكّر، فنحن نتكلّم وهو يستوقفنا في كلّ جملة.
لقد توفي مالك بن نبي في اليوم الأخير من الشهر العاشر عام 1973، التي وقعت فيه حرب السادس من تشرين الأول من السنة نفسها، يقول ابن عيسى: كان آخر خبر نقلته إليه في أكتوبر 1973، إن الجيش المصري أخترق خطّ بارليف، فقال لي بالفرنسية: سنهزمهم!
من الوجهة الأخلاقية يذكر ابن عيسى أنه تعلّم التواضع من مالك بن نبي، وقال: إنه يتعلّم كلّ مرّة لكي يكون أفضل من نفسه، وليس أحسن من غيره. أقول؛ وهذا مقياس في غاية الرفعة والسمو؛ أن يكون الإنسان في سباق مع نفسه، لكي يكون في كلّ مرّة أفضل مما كان عليه سابقاً، وكأنه مأخوذ من الحديث الشريف: من تساوى يوماه فهو مغبون!
مما ذكره أيضاً أنّ آخر كتاب اشتغل عليه مالك قبل وفاته، هو: «الخلافة والملك» وربما كان فكرةً وحسب، أو شرع به ولم يكمله، لأننا لا نعرف لمالك كتاباً بهذا العنوان، رغم تكرّر طباعة كتبه عشرات المرّات.
ينقل عن مالك قوله، بأن المجتمعات تُقاس بمدى ثروتها من الأفكار وليس البترول، وان البترول في بلادنا تحوّل إلى نقمة وليس نعمة، لأننا كنا ننتج ما نأكله، حتى جاء النفط فلم نعد نُنتج، وأصبحنا مستهلكين. كذلك تمييزه بين الأفكار الميّتة والمميتة والحيّة، وعن مقولة القابلية للاستعمار التي تعدّ من الأفكار المركزية في المنظومة الحضارية لمالك، يعطينا ابن عيسى معناها بجملةٍ، يقول فيها: القابلية للاستعمار، هي اجتماع الشروط الاجتماعية والثقافية والنفسية، التي تجعل بلداً ما ضعيفاً، لا قِبَلَ له بمواجهة التحدي.
من جوانب الثراء التي جذبتني إلى تجربة رشيد بن عيسى، قوله: عندما حججت إلى بيت الله، لم أبكِ إلا حين خاطبت الله بلغة أمي، وعندما زرت الحسين (ع) لم أبكِ إلا حين خاطبت الحسين بلغة أمي، وقد كان يقصد بها لغته البربرية التي وُلد عليها، والرجل إلى ذلك من سادات البربر.