التظاهر في الدساتير العراقيَّة

العراق 2019/12/16
...

د. عبد الله حميد العتابي
 
 
ليس ثمة شك في إنَّ الدستور هو الضامن الأساسي لحرية فئات المجتمع بمختلف ألوانه. ولا يكفي وجود النصوص الدستوريَّة والقانونيَّة لحماية الحريات العامة, إنما ينبغي أنْ تتقيد السلطتان التشريعيَّة والتنفيذيَّة في كل تصرفاتها بالنصوص الدستوريَّة أولاً وبالتشريعيَّة ثانياً, وهذا ما يطلق عليه مبدأ سيادة القانون.
 
تشكل حرية التجمع السلمي حقاً من حقوق الإنسان الأساسيَّة، إذ قرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 1 كانون الأول 1948, الذي أكد في المادة (20) على الحق في حرية الاشتراك في الجماعات السلميَّة, ولم يقتصر التأكيد على الحق في التجمع السلمي على المواثيق والاتفاقيات الدولية والعالميَّة. وإنما ذهبت الاتفاقيات الإقليميَّة لحقوق الإنسان في المادة (11) بأنْ يكون لكل إنسان الحق في حرية الاجتماعات السلميَّة. وكذلك ما نص عليه الميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام 2004 في المادة (24) بأنَّ لكل مواطن حرية الاجتماع والتجمع بصورة سلميَّة. بيد أنَّ تلك المواثيق على الرغم من تأكيدها على ذلك الحق وضرورة التعاطي معه, لم تجعل من حق التجمع السلمي حقاً مطلقاً. كما أكدها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية السياسيَّة, إذ نصت المادة (21) منه على أنْ: "يكون الحق في التجمع السلمي معترفاً به ولا يجوز أنْ يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التي تفرض طبقاً للقانون, وتشكل تدابير ضروريَّة في مجتمع ديمقراطي, لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة, أو النظام العام, أو حماية الصحة العامة, أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم".
أشارت الدساتير العراقيَّة الى حرية الاجتماع, ولكنْ بصياغة متباينة, وان اشترطت أنْ تكون تلك الحرية في حدود القانون, فقد أقر دستور 1925 حرية الاجتماع ضمن القانون في المادة (12) منه. ومن المفيد الإشارة الى أنَّ القانون الذي ينظم حرية الاجتماع هو قانون الاجتماعات العموميَّة العثماني الصادر عام 1909, الذي سمح في المادة (1) منه عقد الاجتماعات العموميَّة من دون رخصة بشرط خلوها من السلاح, ومراعاتها للأحكام الواردة في القانون. ويبدو أنَّ حق الاجتماع بمفهومه الواسع (التجمع أو التظاهر) قد نظم على وفق قانون التجمع العثماني الصادر في (26 ربيع الأول 1330 هـ) الذي منع نوعين من التجمعات هما: التجمع بالسلاح, والتجمع بدون سلاح, إذا عدَّ مخلاً بالأمن والراحة للعموم. وألغي القانون بموجب المرسوم رقم (25) لسنة 1954 مرسوم الاجتماعات والتظاهرات, إذ خول نص هذا المرسوم الصادر بتاريخ 12 تشرين الأول 1954 وزير الداخلية إعطاء إجازات التظاهر والتجمع, كما أعطى الموظف الإداري حق تفريق التظاهرات, إذا عرضت الأمن والنظام الى الإخلال, وإذا كان المتظاهرون أو قسمٌ منهم يهتفون هتافات معادية ضد نظام الحكم أو لغرض إثارة الجمهور ضد الأمن والنظام أو يحملون لافتات من هذا النوع.
أشار دستور 1958 الى ضمان حرية الاعتقاد والتعبير وتنظم بقانون, على الرغم من عدم الإشارة الى حرية التظاهر بشكل مباشر. ومن المهم الإشارة الى صدور قانون الاجتماعات العامة والتظاهرات رقم (115) لسنة 1959, وقد نص ذلك القانون على عدم جواز قيام الأفراد بعقد اجتماع عام أو القيام بتظاهرة من دون الحصول على إجازة سابقة من السلطة الإدارية المختصة. وتضمن دستور 1964 نصاً صريحاً بخصوص حق الاجتماع, إذ أشار بوضوح الى أنه "للعراقيين حق الاجتماع في هدوء غير حاملين سلاحاً, ومن دون الحاجة الى إخطار مسبق, والاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة في حدود القانون". أورد دستور 1970 مصطلح التظاهر بشكل واضح, والحق فإنَّ التجمع والتظاهر - بمنظور حزب البعث المنحل – لا يمكن الموافقة عليه إلا إذا كان تأييداً للسلطة القائمة. وهنا لا بدَّ أنْ تستذكر الخروج القسري للعراقيين تحت التهديد للهتاف بحياة الحزب (الأوحد) والقائد (الضرورة), ولم تتردد حكومة البعث بإعدام المتظاهرين ضدها في مناسبات مختلفة توجهاً بالمقابر الجماعية للمتظاهرين خلال الانتفاضة الشعبانيَّة عام 1991.
ومن المناسب التوقف عند قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969, الذي نص على "إذا تجمهر خمسة أشخاص فأكثر في محل عام, وكان من شأن ذلك تكدير الأمن العام, وأمرهم رجال السلطة بالتفرق, فكل من بلغه هذا الأمر ورفض طاعته ولم يعمل به يعاقب بالجبس مدة لا تزيد على سنة".
كان موضوع الحق في التعبير عن الرأي بواسطة التظاهر من بين أول الموضوعات التي حاولت سلطة الائتلاف المؤقتة معالجتها بعد العام 2003 , فأصدرت الأمر رقم (19) لسنة 2003 تحت عنوان (حرية التجمع). ولا بدَّ من تعريف حرية التجمع السلمي قبل تحليل هذا الأمر. حرية التجمع تعني ببساطة قدرة المواطنين على الالتقاء بشكل جماعي لغرض عقد اجتماعات عامة, أو مؤتمرات أو مسيرات أو اعتصامات سلميَّة, بغض النظر عن الجهة المنظمة, وذلك لتبادل الرأي وبلورة المواقف تجاه قضايا مختلفة, وليمارسوا ضغطاً على السلطة التنفيذيَّة بهدف التعبير عن مواقفهم, وتحقيق مطالبهم". وعليه يعدُّ التجمع السلمي إحدى الوسائل ذات الطابع الجماعي في التعبير عن الرأي, وتداول الآراء في مختلف الموضوعات السياسيَّة والاجتماعيَّة وغيرها, وضروري لممارسة الديمقراطيَّة.
وبالعودة الى أمر سلطة الائتلاف المرقم (19) لسنة 2003, فقد علق القسم (2) من الأمر أعلاه أحكام المواد 220 و222 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل, والتي أفادت بحق أفراد الشعب في حرية التعبير والحق في التجمع السلمي, وتضمن الأمر (19) أي تحديد جهة منح الترخيص, أي الجهة تمنح الإذن بالتظاهر السلمي أو التجمع السلمي, وألزم الأمر إخطار سلطة الترخيص قبل 24 ساعة على الأقل من بدء المسيرة أو التجمع السلمي, ووجوب إعلان أسماء المنظمة للتجمع أو التظاهر السلمي والحد الأعلى للأشخاص المشاركين فيه, والطريق الذي تسلكه ووقت بدء ومدة التجمع أو التظاهر, وألزم سلطة الترخيص أنْ تحيط علما المجموعة المنظمة أو التي قدمت إشعاراً قبل (12) ساعة بالحد الأدنى لعدد الأشخاص المسموح لهم بالمشاركة. كما خطر على المتظاهرين إحضار أو حمل سلاح ناري أو أشياء حادة أو أي شيء يمكن قذفه يلحق الأذى, بما في ذلك الحجارة والهراوات والعصي, باستثناء ما يستخدم لرفع اللافتات والشعارات التي يحملها المتظاهرون.
كانت اللغة التي صدر بموجبها الامر رقم (19) لغة مشوشة وغير دقيقة من الناحية القانونيَّة نتيجة لعدم صدور ترجمة رسميَّة للنص, الذي كتب أصلاً باللغة الانكليزيَّة, ونشر في جريدة الوقائع العراقيَّة باللغة نفسها, مرفقة بترجمة غير رسمية لذلك الأمر, ما خلق حالة من عدم الوضوح لا سيما المواد التي تختص بالأحكام العقابيَّة الواردة في القسم (7) منه كونها ليست واضحة.
وكفل دستور العراق لسنة 2005 حرية الاجتماع والتظاهر السلمي, وتنظم بقانون ومما جاء في نص المادة (38) من دستور جمهورية العراق لعام 2005: "تكفل الأساس التشريعي حق التظاهر السلمي وحرية الاجتماع والتعبير عن الرأي بمختلف الطرق وشتى السبل شريطة عدم الإخلال بعناصر النظام العام والسكينة العامة على أنْ يتم تنظيم هذا التكفل مستقبلاً
 بقانون".
غير أنَّ صدور القانون دفع السلطات التنفيذيَّة الى تنظيم ذلك الحق عن طريق التعليمات التنفيذيَّة, ما خلق حالة من عدم الوضوح في التعامل مع ممارسة ذلك الحق, فمن جانب هو حق كفله الدستور. ومن جانب آخر, فإنه شكل عبئاً على السطات الأمنية التي تتحمل ضغوطاً هائلة في حربها ضد الإرهاب, ما يدفعها في كثيرٍ من الأحيان الى تحجيم ممارسة ذلك الحق, ما يوقعها في إشكاليَّة مخالفة الدستور.