الجودةُ والجمالُ

ثقافة 2019/12/18
...

محمّد صابر عبيد
 
يسير مفهوما الجودة والجمال جنباً إلى جنب في السبيل إلى توكيد حقيقة التلازم المفهوميّ بين نُظُم الصوغ المرتبطة بالجمال من جهة، والآليّات التي تضمن لهذه النُظُم أعلى درجات الجودة في إتقان المصنوع الذي غالباً ما يقوم على خصوصيّات ذاتيّة محضة ترتبط بشخص الصانع من جهة أخرى، ومن هنا يمكن الانتباه إلى ما يصطلح عليه مثلاً “الصناعات التقليديّة” لدى الشعوب، وهي صناعات يدويّة تعتمد على مهارة الحِرَفيّ وذكائه وخبرته في إنجاز مصنوعٍ معيّنٍ يتوفّر على عنصر البراعة التي لا توجد لدى شخص غيره
 
تعرّضت هذه الصناعات في مرحلة ثورة الآلة إلى انحسار كبير لما توفّره الآلة الحديثة من سرعة في الإنجاز وكمّ هائل من المنتَج ورخص كبير في سعر الاقتناء والحيازة، وهو ما جعل أغلب الناس يبحث عن السريع والرخيص الذي يناسب العصر ويستجيب لطبيعته ويحقق معدلات توفير مادية مهمة، إذ صار كل شيء أسرع من الإنسان نفسه في الحركة والفعل والاستخدام والإنتاج، وصارت الشركات الكبرى التي تنتج ما لا يخطر على بال بشر تتعمّد صناعة أشياء معدّة للاستخدام السريع، فلا تدوم الصناعات طويلاً بل يستخدم كثير منها مرة واحدة ويتمّ التخلّص منه كي تضمن هذه الشركات المزيد من الإنتاج، على نحو أضعف الاهتمام تماماً بالمصنوعات اليدوية التي تدوم طويلاً ويتمّ الاحتفاظ بها والتغنّي بديمومتها وتاريخها الطويل وإرثها الذي يجعل المكان الذي توضع فيه ساحراً يذكّر بأمجاد غابرة، وهو ما يصطلح عليه شعبياً “الأنتيكات” إذ يجتهد عشّاقها في الحصول عليها واقتنائها والاحتفاء بها على نحو قد يكون مبالغ فيه أحياناً، لكنّه على الرغم من ذلك يمثّل حالة لها علاقة باحترام الجمال والمهارة والصنعة اليدوية الفريدة التي قد لا تتكرر.
الصناعة اليدوية تعتمد على براعة اليد وحساسيتها وذكائها ومرونتها في التعبير عن ذوقها وإبداعها وقدرتها على الإضافة دائماً كلّما دعت الحاجة، فاليد وهي تمارس صناعتها تنطوي على مزاج خاص ونوعي بالغ الرهافة والدقّة والشعرية، ولها طاقة شحن هائلة تكتنز بها وتمتلئ بتفاصيلها وألوانها وروحها وانفتاحها على أفق لا ينتهي من الإلهام والقوّة والرغبة في الإنجاز، هذه اليد القادرة على الكشف والاكتشاف وتحويل العادي إلى عجائبي وغرائبي حين تتمرّن وتتثقّف وتكتسب الخبرة اللازمة للعمل والإبداع، وهي بحاجة دائمة لتطوير إمكاناتها واكتشاف سبل جديدة ومبتكرة للانتقال بالمصنوع من طبقة إلى طبقة ومن مرحلة إلى مرحلة أجمل، حتى تصل إلى مستوى من الفعل تتقن فيه آليّات الأداء ضمن طاقة مرونة هائلة قادرة على الإضافة والتنوّع داخل الفضاء العام للوحدة المصنوعة.
اليد ترى وتسمع وتتذوّق وتشمّ رائحة الفنّ وهي تتحرك على بساط المصنوع وتسخّر عقل الصانع للتفنن فما تضيفه على المصنوع من روحها وصيرورتها الجمالية، في حين تكون الآلة عمياء تعمل بلا عقل ولا إحساس ولا رؤية، لذا فهي تصنع آلاف الوحدات من أيّ مصنوع على صورة واحدة شديدة الدقّة بحيث لا تختلف وحدة عن أخرى إطلاقاً، بجودة واحدة ونمط واحد وهيئة واحدة من دون فرق ولو واحد بالمئة، ما يفقدها جمالية الاختلاف والتباين وسحر بنيوية كل وحدة مختلفة عن صاحبتها كما هي الحال في المصنوعات اليدوية، التي ينجزها الصانع بحساسية ومزاج وأداء يختلف بين واحدة وأخرى، يضع في كل واحدة منها جزءاً من روحه وضميره ومزاجه ورؤيته وإبداعه وطاقته الخلاقة العارفة.
يرتبط مفهوم الصناعة المعروفة بالجودة والجمال بمفهوم “الصياغة” المتصلة أساساً بمعدن “الذهب”، ويقال للمشتغل في هذا الحقل النوعيّ: “الصائغ” وهو من يبرع في فنّ الصياغة ويمتهن حرفتها ويجوّد فيها ويرتبط اسمه وشهرته بها، وقد انسحب مفهوم الصوغ على المهن اليدوية الأخرى التي تقتضي براعة خاصّة في صناعتها، والأخرى ذات الطبيعة الفكرية والثقافية ومنها “صناعة الأدب”، فالأديب يمتهن صنعة الأدب ويصوغ نصوصه كما يصوغ الصائغ الحلي الذهبية على نحو يملأ العين والإحساس ويثير طاقة الإبهار والإعجاب، ومثل ذلك أيّ مهنيّ آخر يحوّل مهنته إلى مجال جماليّ لتنفيذ أفكاره البارعة في التجويد والخلق الفريد.
صناعة الأدب ترقى إلى أعلى سلّم الصناعات النوعية الخاصّة بوصفها صناعة عقلية يشترك الجسد في إنجازها، فثّمة تناغم هائل بين اليد التي تكتب والعقل الذي يوفّر الحالة الذهنية الفريدة لكي تشتغل اليد بأعلى طاقتها الجمالية الممكنة، وبلا هذا التناغم الدقيق بينهما لا تستطيع اليد وحدها مهما بلغت من الكفاءة، ولا العقل وحده مهما احتشد بالإبداع والمعرفة إنجاز النصّ الباهر المطلوب مطلقاً، لا بدّ من تناغم بين اليد والعقل وحتى أجزاء الجسد الأخرى التي لها علاقة ما بطبيعة النص وجوهره ومقولته.
كان العرب القدامى ينظرون إلى الأدب بوصفه صناعة نوعية لا يشتغل فيها سوى أولئك الموهوبين الكبار الذين يعرفون ما يفعلون، ولعلّ عنوان كتاب “إكسير الذهب في صناعة الأدب” لابن فضّال المجاشعي (ت479ه) يحيل على هذه الفكرة بقوّة على الرغم من أنه من الكتب الضائعة، وقد ذكر ياقوت الحموي أنّه يقع في خمس مجلّدات مخصّصة لهذا الموضوع الطريف، في حين عدّ أبو بكر الصولي في القرن الثالث الهجري الأدب من الصناعات الثقيلة التي قد يتوقّف عليها مستقبل الشعوب، إذ هي صناعة ثقيلة لا يتكشّف أثرها بسهولة زمنية أو مكانية بل تحتاج إلى وقت كافٍ ومساحة كافية لتُظهِر أهميتها وخطورتها.
تعدّ الترجمة الأدبية صناعة فريدة من الصناعات التي قد يمارسها الكثيرون لكنّ الإجادة فيها تكاد تكون نادرة، لفرط صعوبة هذا النشاط الإنساني الثري وتعقيده على نحو يحتاج إلى مهارة فائقة وكثيفة وغنية يصعب وجودها إلا نادراً، فكيف يمكن لها أن تحقق الجودة والجمال وهي تمشي في حقل ألغام مدجج بأنواع قاتلة من المتفجرات، وحين يحقق المترجم عنصري الجودة والبراعة فقد يحصل على مكافأة تعادل وزن عمله ذهباً كما كان يفعل الخليفة العباسي “المأمون” حين يكافئ المترجمين الأفذاذ على ما يترجمونه.